من دفتر الوطن

جهلكم قيدكم

| حسن م. يوسف

لو كان بوسعي تحويل كلماتي إلى حطب أو مازوت يدفئ أبناء بلدي وحماة دياري، لما ترددت لحظة واحدة في التخلي عن آخر حرف من لغتي، ولكنت نذرت الصمت حتى آخر أيامي. لكن عين الأماني بصيرة والحروف قصيرة. صحيح أن الكلمات قد تمس الوجدان، في بعض الأحيان، لكنها لاتسمن ولا تغني من جوع كما لا تقي من برد.

يقول كثير من عقلاء العرب إن جبهة الثقافة هي الوحيدة التي لم تهزم بعد، رغم شراسة الهجمات عليها وتخاذل بعض المدافعين عنها. والحقيقة أن ما يحدث على الجبهة الثقافية العربية خطير ولا يجوز السكوت عنه، فهناك محاولات متكررة لنقل الحدود السياسية التي فرضتها القوى الاستعمارية على منطقتنا، إلى مجال الثقافة. صحيح أن (اللغة اللبنانية) الدارجة ماتت في مكانها، لكن اللهجة المصرية التي بدأ تسويقها قبل سنوات (اللغة المصرية)، لا تزال تحاول فرض نفسها، وقد دخل هذا المشروع (!) مجال الترجمة مؤخراً، إذ قام هيكتور فهمي بترجمة رواية (الغريب) لألبير كامو من الفرنسية الفصحى إلى اللهجة المصرية الدارجة! والغريب حقاً أن الشاعر والمترجم التونسي ضياء بوسالمي قام مؤخراً بترجمة رواية كامو نفسها إلى الدارجة التونسية وعَنْوَنَها (لَغْرِيْبْ)! والأعجب مما سبق هو أن السيد بو سالمي سبق أن ترجم مذكرات شاعر تونس الأشهر أبو القاسم الشابي من اللغة العربية الفصحى إلى التونسية الدارجة! وهو يدعي أن هدفه من ذلك هو: «تقريب الأدب إلى الناس عبر اللهجة التي يتكلمون بها»! وهذا طرحٌ ظاهرُه حق وباطنه باطل، إذ لا يمكن التعبير عن لغة الأدب العالية بلغة الكلام اليومي. وقد قسم العرب قديماً الكلام إلى ثلاثة أنواع، هي «النثر العادي»، ويستخدم في أحاديث الحياة اليومية البسيطة، والنثر العلمي، ويستخدم في تدوين ونقل المعارف والحقائق، ويتم التركيز فيه على دقة المحتوى لا على جمال الشكل. أما النوع الثالث والأهم فهو النثر الفني، أي الأدب، الذي يستخدم طاقات اللغة وأبعادها الجمالية حتى أقصى مداها التعبيري والتصويري، متجاوزاً لغة الكلام البسيطة، ولغة العلم الجافة.

عرّف أبو الفتح ابن جنّي، اللغةَ إذ قال: «اللغة أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم» وقد كانت قبائل العرب قبل الإسلام لا تتحارب وحسب، بل كانت تتحدث عدّة لهجات، منها الكشكشة والشنشنة والعجعجة والفحفحة… إلخ. لكن لهجة قريش (أي الفصحى) هي التي سادت، لأن القرآن الكريم نزل بها، وبها تكلم النبي الكريم محمد، وبها قيل الشعر العربي، وبها دونت أمهات الكتب العربية.

من المعروف أن المواطن الإنجليزي يقرأ حكايات كانتربري التي كتبها جيفري تشوسر (1343م – 1400 م.) أبو الأدب الإنجليزي، في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، مترجَمةً من الإنجليزية القديمة إلى الإنجليزية الحديثة، في حين نحن نقرأ معلقة امرؤ القيس (496- 544 م.) بلغته نفسها رغم أنه عاش قبل تشوسر بثمانية قرون.

وصف ابن خلدون (1332 – 1406م.) اللغة بأنها «الوسيلة التي تترجم ما في ضمائرنا من معانٍ، وأنها مرآة للعقل تعكس ما يحتويه؛ فإن هي تصدعت وضعفت أوهنت الجهد، وحرمت الدقة، ومنعت تسامي العقل والقلب».

يزعم مروجو اللهجات العامية أن «العربية الفصحى تقيد التعبير الحر بسبب القواعد»، وهم بهذا يغالطون أنفسهم، فالفصحى ليست مجرد لغة تجمع العرب وحسب، بل هي لغة ذات مستوى عالٍ من التّنسيق والتناغم بين المفردات وهي الأقدر على تلبية حاجات المجتمع في مختلف مراحل تطوّره، عبر قابليتها للاشتقاق وتوليد المفردات. ففي اللغة العربية واحد وسبعون اسماً للمرأة، وعدد مفردات اللغة العربية أكثر من الإنجليزية باثني عشرة مرة! لذا أقول لهؤلاء بكل وضوح: إن ما يقيد حرية تعبيركم باللغة العربية الفصحى هو جهلكم بها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن