دول وكيانات عربية في بلاد الشام قبل الإسلام … تصحيح جملة من المفاهيم والمغالطات الحضارية والتاريخية المتحيزة
| عبد الهادي الدعاس
كتاب جديد صدر عن وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب، تحت عنوان «دول وكيانات عربية في بلاد الشام قبل الإسلام»، ناقش فيه الباحث والكاتب الإعلامي الدكتور خلف الجراد ما تتعرض له أمتنا العربية منذ مئات السنين من تشويه متعمد لتاريخها القديم والجديد، مع تشكيك خطر يشارك به عدد من أبنائها أدعياء العلم والثقافة وحملة الأقلام والشهادات الأكاديمية العالية، الذين يظهرون شراسة شديدة في هجماتهم غير الموضوعية.
مشدداً على أنهم كانوا يريدون من ذلك إخراج أنفسهم من عار كبير وتهمة التصقت بوجودهم ولغتهم وثقافتهم وتاريخهم، زاعمين أن العرب في بلاد الشام جاؤوا إليها واستوطنوها في أعقاب الفتح العربي الإسلامي، وأنه لم يكن لهم وجود ملموس وواقعي من قبل.
وأراد الجراد من هذه الدراسات المكثفة تصحيح جملة من المفاهيم والمغالطات التاريخية الحضارية والأيديولوجية التي حفلت بها القراءات المتحيزة المغرضة فيما يخص منطقتنا العربية عامة وبلاد الشام بصفة خاصة، مستنداً إلى عشرات المصادر القديمة والمؤلفات الحديثة المعاصرة، مع استمرارية النقاشات الساخنة وظهور نظريات وقراءات مختلفة، ينتج عنها مؤلفات جديدة ومقاربات متعارضة ومتناقضة في هذا الميدان الواسع المتداخل.
مسألة العلاقة العربية- السامية
وتطرق الجراد بأحد فصول الكتاب إلى موضوع «مسألة العلاقة العربية- السامية»، وهو الذي أراد من خلاله الجراد أن يكون الموضوع المحوري الذي يضيء عدداً من الجوانب والزوايا المهملة أو شبه المهملة في تاريخنا المعاصر عامة والخطاب السياسي العربي بصفة خاصة.
وبيّن الجراد أن كلمة «العرب» تطلق على سكان بلاد واسعة، يكتبون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة والتلفزة بلغة واحدة، وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم وفي حياتهم اليوم أدوا ذلك بلهجات محلية متباينة، مبيناً الجراد أن علماء اللغة العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، لكونهم يذهبون إلى أن «يعرب» كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، لكنهم اختلفوا في أصلها ونشأتها وأول من تحدث بها.
بلاد الشام قبل الإسلام وأبرز منجزاتها الحضارية
أما في فصل دول وكيانات عربية في بلاد الشام قبل الإسلام وأبرز منجزاتها الحضارية، فقد سعى الدكتور الجراد للحرص على تأكيد هذه المسألة المحورية والجوهرية لتاريخ المنطقة العربية بوصفها إقليماً حضارياً واحداً مر بحقب وأزمنة وأُسر حاكمة كثيرة، وليس في إطار نزاعات أو اتجاهات أو تكوينات إثنية أو قومية أو لغوية انفصالية مستقلة عن المنحى الحضاري العام لهذه الأمة.
وأشار الجراد إلى أنه سيتم إيضاح الموقف الحقيقي لكل مؤرخ أو باحث أو مؤلف من النقاط المطروحة وفق متطلبات كل مبحث ومقتضياته.
هجرات عربية جزرية قديمة
كما أوضح الجراد بالفصل الذي حمل عنوان «هجرات عربية «جزرية» قديمة إلى بلاد الشام والعراق وتجلياتها الحضارية، أن عرب الجنوب أو العرب القحطانية كانوا سباقين إلى الحضارة والمدنية في اليمن وجنوب الجزيرة العربية، إذ كانت لهم حكومات وإدارات ومجالس تشريع وحكم، وقوانين مدنية واقتصادية، تزيد على عربيتنا المتداولة حالياً حرفاً واحداً هو السين الذي بين السين والشين وسماها المؤرخون القدامى «القلم المسند».
وأكد الجراد على العلاقات التجارية الوطيدة مع سكان الشمال في بلاد الشام وبلاد الرافدين والحبشة ومصر وليبيا واليونان، حيث وصلت كتاباتهم وتحدثت أسفار «العهد القديم» بشأنهم، وذكرتهم كذلك المصادر الآشورية، ويعتقد أن الصلة بينهم وبين الآشوريين وسكان شمال الجزيرة العربية كانت عن طريق مستوطناتهم في شمال غربي الجزيرة العربية.
بلاد الشام جزء لا يتجزأ من جزير العرب
في الختام يشير الدكتور خلف الجراد في كتابه، إلى أنه تم الاستناد إلى عشرات المصادر الجغرافية والتاريخية والتراثية العربية القديمة، ليبرهن من خلاله إلى أن بلاد الشام هي جزء عضوي لا يتجزأ من «جزير العرب» بمعناها الجغرافي الذي كان معروفاً منذ آلاف السنين، وينتج عن هذه الحقيقة الثابتة حسب قوله، بطلان التقسيم الاستشراقي والاستعماري لهذه المنطقة الواحدة، بأسماء مصطنعة ومصطلحات غير علمية وموضوعية لأهداف تجزيئية معلنة، كما حصل بالنسبة إلى مسمى «شبة الجزيرة العربية» البريطانية.
المحور الآخر الذي يؤكده الدكتور خلف الجراد في كتابه، يتمثل بأن القبائل والجماعات العربية كانت على مدى آلاف السنين تتجول وتتحرك بحرية تامة في مسرحها الجغرافي، الأثنوي واللغوي الطبيعي، وتقيم حواضرها ودولها وممالكها بأسمائها القبلية أو الأسرية، (الكنعانيون- الفينيقيون- الأموريون- العموريون – الآراميون)، من دون أن تنفصل عن أرومتها العربية وانتمائها القومي الضارب في أعماق التاريخ، وترسيخاً لهذه الرؤية الحضارية الشاملة تتبع الجراد، بالتفصيل والتوثيق كيف تم إنشاء دول وكيانات عربية عدة في بلاد الشام قبل الإسلامي بحوالي 7-8 قرون وهي: دول الأنباط، ومملكة تدمر، ودولة الغساسنة.
الجراد بين في كتابه أن إقامة هذه الدولة والممالك والكيانات، جاء في سياق طبيعي من التطور والرقي التاريخي والحضاري والاقتصاي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وليس البتة على شكل اقتحام أو احتلال خارجي أو بهيئة «موجات غازية من قبائل بدوية متخلفة»، كما يزعم أعداء أمتنا وحضارتنا من الصهاينة والمستشرقين والمتهودين، إضافة إلى تلامذتهم التائهين الغارقين في الأضاليل والزيف والاغتراب وفي المستنقعات الصهيونية العنصرية الآسنة.