ثقافة وفن

وزع الياسمين والنوافير في كل البيوت العربية … بسام الملا المخرج الناجح بكل المقاييس وفي جميع فنون الدراما.. وداعاً لإبداعك

| إسماعيل مروة

ليس في مقاييس التأبين، فكثير من الكلام الذي يقال في الوداع يقال من باب المجاملات التي تفرض نفسها، وليس كذلك من باب التقويم فتجربة امتدت لثلاثة عقود من الجد والجهد والتقدم والشهرة، لا يمكن أن يحاط بها في وقفة نقدية قصيرة كهذه، إنها وقفة وجدان ووداع لمبدع ملأ حياتنا الفنية والثقافية بإسهامات لا تنسى، وأمضى حياته من نجاح إلى نجاح عبر مسيرته الفنية المتكاملة، التي لم تتوقف عن الاجتهاد في تقديم مشروع ورؤية.. بسام الملا المبدع الكبير والمخرج الجميل والإنسان الراقي يودعنا بعد أن أودعنا أجمل ما فيه، وكل ما فيه كان جميلاً.

في الطفل كان الأرقى

لا يمكن أن ينسى أي متابع ما قدمه بسام الملا في (كان يا ما كان) ووحده العمل الذي اثبت قدرة المبدع السوري والعربي على إنجاز عمل لائق راق يحاكي عقل المتفرج الطفل، وبإمكانات فنية عالية للغاية، وبقي هذا العمل هو الذروة من أعمال الطفولة العربية التي لم تعتمد الترجمة وحسب، ولم تأخذ إلا من سياق التراث والواقع العربيين، وقد وظف الملا في هذا العمل قيمة القيم الأخلاقية والعالية، وجعل الممثلين في دائرة من الإبداع، كان من الصعب مجاراتها في أجزاء تالية كانت دوراناً في حومة إبداعه من دون إضافة، ومن دون مجاراة!

البيئة والأمراض

يسجل للملا تقديمه لمسلسل «الخشخاش» وهو عمل اجتماعي بيئي يتناول أمراض المجتمع، وتأثير المخدرات في ارتكاب الجرائم، وذلك في حكايات متناغمة تربط ما بين الجهل والغيبوبة والاستغلال، وقد تحدث كثيرون عن العمل، وانتقدوا إشاراته المجتمعية، لكن النقد أثبت أن الملا كان سابقاً لزمانه في تقديم عمل اجتماعي يقوم على حبكة غامضة تحاكي البوليسية من طرف يناسب البيئة، وكان نقطة الانطلاق الحقيقية في إبداع بسام الملا.

العبابيد والخروج عن المألوف

قد لا يشير كثيرون إلى أن عمل العبابيد الذي يتناول حياة زنوبيا عن نص رياض سفلو كان من الأعمال المهمة، ولعله أول عمل تاريخي موثق بهذه الطريقة، يقدمه بسام الملا بإبداعه وقدراته الإخراجية، مستغلاً الإمكانات المتاحة، ليقدم أول عمل لائق بهذه الحقبة المهمة، والتي قدمت من قبل بفقر إنتاجي، ولا أزال أذكر إلحاح بسام الملا على أن تكون رغدة هي البطلة، وقام بمشاورات ورحلات لتكون هي زنوبيا، وكانت النتائج كما أرادها بسام الملا أكثر من مدهشة ومقنعة، وكان هذا العمل عند عرضه يدفع فينا الرهبة والخوف من تقنيات الملا البارعة إلى لحظة مفارقة زنوبيا، فرأينا الدمار والقتل والغدر، ولأن المخرج هو المبدع بسام الملا فقد اشترك المبدع بسام كوسا بدور هو ضيف شرف فيه أسبغ على العمل المزيد من الحب.. والعبابيد بحق يعد أهم الأعمال التاريخية التي نحتاج إلى تنفيذها وإعادتها مراراً.

أيام شامية والشام

بسام الملا وبعد سلسلة من الأعمال الشامية التي أنجزت لعادل أبو شنب وعلاء الدين كوكش والماغوط وغيرهم وصولاً إلى رائعة كوكش وفؤاد شربتجي (أبو كامل) بعد هذه السلسلة، وقد كان الملا قريباً ومساعداً لعلاء الدين كوكش، خرج من العباءة ليتنبى نصاً جميلاً أبيض للكاتب الفلسطيني البارع أكرم شريم هو نص (أيام شامية) ليقدمه ويكون أول نص يحمل هويته الشامية بنكه وفرادته، ويكون الشرارة التي بدأت معها سلسلة العشق الشامي، وما يزال الناس يذكرون أيام شامية ويحبون العمل، وقد حمل العمل الكثير من الطزاجة والصدق والعفوية، وأكثر من أي عمل جاء بعده عن البيئة الشامية بما في ذلك أعمال بسام الملا نفسه.

ليالي الصالحية والخوالي

بصمتان خاصتان قدمهما بسام الملا، وكانتا تحملان هويته وبصمته وإلى اليوم تحمل قصة هذين العملين نكهة خاصة، في رحلة الحج وما تتبعها، والأحاديث عن الألوان القومية الموجودة في سورية دون إعلانات وشعارات، وقد رسم في هذين العملين منحاه الفكري في تعزيز البحث عن الفوائد الأخلاقية والروابط الاجتماعية.

باب الحارة

بدأ مسلسل باب الحارة مشروعاً مشتركاً بينه وبين هاني العشي، وكان من قسمين، لكن النجاح المنقطع النظير للحكاية جعل العمل يمتد، ومن ثم يشهد صراعاً على أبوته وكتابته وإنتاجه وإخراجه وتسويقه، ولكن الملا بعد أجزاء من هذا العمل الذي صار أيقونة رمضانية ابتعد عن باب الحارة، ليخلص لمشروعه الفكري والإخراجي، بل إنه تفرغ للمشروع بسبب عوارضه الصحية، وترك مهمة العمل للمحيطين به.

صار باب الحارة مجالاً لتندر الكثيرين من يدّعون أنهم يحملون الفكر، وانتقدوه كثيراً، ولكن ما إن لاحت لهم إمكانية المشاركة حتى سارعوا للعمل فيه، لأنه وبكل بساطة كان عملاً درامياً ناجحاً وتسويقياً يختلف عن أي عمل آخر.

بسام الملا وداعاً: أيها المبدع المشهور بنظرته ونظّارته، أيها المبدع الجميل الذي فتح أبواباً واسعة للدراما والدراميين في سورية وداعاً، لا يشك أحد حتى ممن يظنون أنفسهم أعلى من أعمال البيئة في أنك الأكثر اجتهاداً وإخلاصاً لعملك ومشروعك، وإن كانت الرؤية التجارية ضمن المشروع،.. لن أنسى ما قاله فيك مؤرخ الشام وعاداتها منير كيال، اختلفت مع المخرج بسام الملا حول تفاصيل في البيئة الشامية، لكنه الأكثر صدقاً وحرصاً ومعرفة.

نثرت الحب والياسمين
وزعت النوافير في كل البيوت العربية
جعلت الوطن العربي أياماً شامية
صنعت لكل حارة بابها
أغلقت الأبواب ورحلت

لأسرتك العزاء والحب، ولأشقائك كل العزاء.. ولسورية العزاء بفقدها الأكثر نشاطاً وإثارة للحب والجدل بسام الملا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن