بلغت الأزمة السورية بعد معركة حلب في كانون الأول 2016 محطة، كان عنوانها الأبرز هو: تلاشي رهانات الغرب وأذرعه الداخلية في سقوط نظام دمشق، والتي أثبتت صلابته حقيقة مفادها أنه يمثل رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية بل الدولية أيضاً، وأن الفعل، أي سقوط النظام، ستكون له حمولات لربما من شأنها أن تنسف كل «المعاليم» في تلك المعادلات التي ستصبح شبه مستحيلة الحل، لأنها ببساطة ستكون محتوية فقط على «مجاهيل» لا يمكن معها إيجاد حلول لها.
ومنذ تلك المعركة، أي معركة حلب، كان من الواضح أن موسكو ستمضي نحو تثبيت تلك المعادلات التي ستفضي حتماً إلى صون وحدة الجغرافيا السورية حتى بات لصونها رمزية في إطلاق «صرخة» النهوض الروسي.
وسبقت «محطة حلب» بروز مشكلة كان نموها أشبه بكرة الثلج في شرق الفرات السوري، والفعل كان محض تصدير خارجي ارتأى أن ضعف السلطة المركزية في دمشق بفعل تداعيات الحرب العسكرية والاقتصادية إنما يمثل فرصة سانحة لتكرار سيناريو شمال العراق الذي شهد منذ العام 1991 قيام حكم ذاتي بفعل حسابات خاطئة لنظام بغداد عندما قام بغزو الكويت صيف العام 1990، ثم توسعت تلك الصيغة بعيد سقوط بغداد على يد الأميركيين ربيع العام 2003 حتى غدت بصلاحيات فضفاضة لتنتج حالة هي أقرب للاستقلال الذي لم يكن ينقصه سوى اعتراف دولي، الأمر الذي حاولت حكومة الإقليم الحصول عليه عبر استفتاء العام 2017 ليتكشف سريعا أن الفعل كان خطأ استراتيجياً من العيار الثقيل، ثم إن مراميه فوق ما تحتمله تركيبة المنطقة المثخنة بالجراج، والأخطر أنه كشف عما يدور في الأذهان، وللأمر تبعاته التي سيصعب الخلاص منها في وقت قريب، دون أن يستطيع القائم بالفعل جعل ما يدور حقيقة واقعة على الأرض.
بعيد الإعلان عن «الانتصار على تنظيم داعش» في الباغوز في آذار من العام 2019 قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارة إلى كل من دمشق وأربيل، حيث ستظهر التصريحات التي أدلى بها في أعقاب اللقاءات التي أجراها في كليهما أن موسكو تدعم قيام اتصالات موسعة بين الكرد العراقيين والكرد السوريين، بل ذهب لافروف في تلك الآونة إلى حدود الطلب من الكرد العراقيين أن ينقلوا تجربتهم بشكل أكبر فاعلية إلى السوريين، لكن مع التركيز على وجوب أن ينظر الكرد السوريون إلى آفاق أبعد لأنه ما من شك في أن «الأميركيين ليسوا من سيقرر مصير سورية».
كان لافروف يريد من ذلك التركيز على معطيين اثنين، أولهما أن الانسحاب الأميركي من سورية سيحصل غدا إن لم يحصل اليوم، وعليه فإن قيام حوار ما بين «الإدارة الذاتية» وبين دمشق يمكن أن تكون له مكاسبه بالنسبة للأولى، وبما لا يقاس، فيما لو جرى ذلك الحوار بعيد طي الجنود الأميركيبن لأمتعتهم تمهيدا لخروجهم من الأراضي السورية، وثانيهما أن خروج مناطق شرق الفرات عن السيادة السورية أمر لا تحتمله الوقائع، ولا كينونة الجغرافيا السورية، ولذا فإن من المفيد للكرد السوريين طرح صيغة تكون مقبولة، وهي مانعة بالتأكيد، لتحقيق ذلك الخروج.
عرض لافروف خلال مؤتمر صحفي عقده في الرابع عشر من الشهر الجاري لنتائج أنشطة الديبلوماسية الروسية في العام 2021، وللعديد من المسائل التي كان من بينها مسألة شرق الفرات، ومن خلال ذلك العرض قال إنه «من الضروري البدء بمحادثات جادة مع دمشق حول الظروف التي سيعيش فيها الكرد في سورية»، ثم أضاف إن محادثاته التي أجراها مع السيدة إلهام أحمد للعام 2011 كانت قد ركزت على وجوب قيام ذلك الحوار، وفي السياق ارتأى وزير الخارجية الروسي أن «القضية الكردية» هي إحدى العقبات أمام المفاوضات الكاملة، وأن الكرد في «اللجنة الدستورية» لا يمثلون كل الهياكل الكردية، والأهم هنا مما ارتآه هو أن الهياكل الكردية المستبعدة عن تلك اللجنة تدار بأيد خارجية فـ«منهم من توجههم الولايات المتحدة ومنهم من توجههم تركيا أيضاً».
بشكل ما يمكن القول إن السياسة الروسية التي تجهد منذ وقت غير قصير لمعالجة المسألة الكردية الناشئة في شرق الفرات منذ إعلان واشنطن عن تأسيس «التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية» في العام 2014، ترى وجوب أن تكون الأولوية الآن لحل تلك المسألة لاعتبارات عديدة منها الآثار التي سيخلفها ذلك الحل المفترض على الواقعين الاقتصادي والسياسي السوريين، ومنها أيضاً العلاقة مع تركيا التي تربط الوضع القائم راهنا في الشمال الغربي للبلاد مع نظيره في شرق الفرات، وهي، أي السياسة الروسية، تجهد أولا لـ«إغواء» القيادات الكردية في «مسد» و«قسد» برزمة المكاسب المستحصلة التي يمكن جنيها راهنا في ظل الوجود الأميركي، والتي ستتقلص بالتأكيد فيما إذا زال ذلك الوجود، الأمر الذي يجب على تلك القيادات التعاطي معه كحقيقة واقعة، والرؤية سابقة الذكر ترمي إلى انتزاع ورقة ثمينة من بين يدي واشنطن قبيل حلول التسوية النهائية، حيث الثمن هنا أقل تكلفة، بما لا يقاس، من الدخول في سياق ممارسة شتى الضغوط لإخراج القوات الأميركية من الأراضي السورية، وفي معرض «الإغواء» سابق الذكر لا تنسى موسكو التذكير بمحطات كبرى كانت لها تداعيات مهمة على المشهدين الإقليمي والدولي، كانت قد بدأت أواخر آب المنصرم الذي شهد هزيمة الأميركيين في أفغانستان، ثم أعقبتها الأزمة الأوكرانية التي أنتجت لائحة المطالب الأمنية الروسية من الغرب التي شكلت عاملاً مهماً يشير إلى انزياحات محتملة في موازين القوى العالمية خصوصاً إذا ما حظيت بتأييد نهائي من الصين، وصولاً إلى الأزمة في كازاخستان التي انتهت بانتصار روسي حاسم.
ما تريد موسكو قوله هنا: إن الاستقرار في سورية لا يقل أهمية، لموسكو، عن الاستقرار في محيطها الجغرافي، بل إن الاستقرار الأول، أي في سورية، يكاد يكون أكثر أهمية لها في سياق إرساء معادلات جديدة تقود نحو تداعي نظام القطب الواحد الذي ساد العالم منذ العام 1991، وعلى اللاعبين في الداخل، وكذلك في المحيطين الإقليمي والدولي، أخذ كل ذلك في الحسبان.