هارون الرشيد.. راعي الموسيقا العربية … من اليونان إلى العرب رحلة للموسيقا الغنية في العصر العباسي
| د. رحيم هادي الشمخي
لقيت الموسيقا والغناء في العهد العباسي اهتماماً كبيراً ورعاية نشطة من حكام بغداد، فقد رعى الخليفة (المهدي) هذا الفن وأحضر إليه (سياط المكي) صاحب الصوت الشجي، وكذلك تلميذه (إبراهيم الموصلي) 732-804، الذي أصبح بعد أستاذه سيد الأصول الموسيقية الكلاسيكية عند العرب، وكان إبراهيم الموصلي من أسرة فنية معروفة، فكان أول من وقع الإيقاع بالقضيب، وبلغت براعته في الموسيقا على ما جاء في الأغاني، وبعد المهدي، اتخذ هارون الرشيد، إبراهيم الموصلي نديماً، ومنحه 150 ألف درهم، وكان يصله بعشرة آلاف درهم كل شهر، ويُقال إنه أعطاه يوماً مئة ألف درهم على صوت واحد غناه به فأعجبه.
البلاط والموسيقا
وكان بلاط الرشيد يرعى الموسيقا والغناء العربي، كما رعى العلم والفن، فأصبح مقصد أرباب الموسيقا الذين برز عدد كبير منهم ترافقهم طائفة من المغنين والمغنيات، وقد تركت هذه الجماعة آثاراً خالدة في تاريخ الموسيقا العربية، وقد روى (المسعودي) أن أكثر من ألفين من المغنين والمغنيات اشتركوا في مهرجان موسيقي برعاية هارون الرشيد، وروى أيضاً أن (الأمين) قد أحيا مرة ليلة لهو ورقص شارك فيها أهل البلاط ذكوراً ونساءً حتى مطلع الفجر، وأنه في حين كان جند المأمون يحيطون ببغداد، كان الأمين جالساً على ضفة دجلة وحوله خواص جواريه يطربنه، ومن المغنين الذين رعاهم الرشيد (مخارق) توفي سنة 845، وهو تلميذ إبراهيم الموصلي، وقد منحه الخليفة مئة ألف دينار وأدناه من مجلسه، ويروي صاحب الأغاني عن (مخارق) أنه (توسط دجلة في إحدى الليالي واندفع يغني بأعلى صوته فما بقي أحد من ملامح ولا غلام ولا خادم إلا وبكى، وظهرت الشموع والسرج من جانبي دجلة في صحون القصور والدور تتساعى بين يدي أهلها يستمعون غناءه).
الموصلي قوة الحضور
وكان من ندماء المأمون والمتوكل (إسحق الموصلي)، 767-850، عميد أهل الموسيقا في عصره، وقد تمثلت فيه بعد أبيه روح الموسيقا العربية في بغداد، وقيل فيه إنه أعظم من أنجبهم أهل بغداد في هذا الفن العربي الأصيل، وكان هؤلاء وسواهم من أرباب الموسيقا والغناء أكثر من موسيقيين، فقد منحوا من الذكاء والفطنة وسرعة الخاطر وقوة الذاكرة قدراً كبيراً، وكانوا فوق ذلك يحفظون كثيراً من الأشعار المختارة والنوادر وغير ذلك من الفنون، حيث كانوا (مغنين وشعراء) وعلماء ألموا بالثقافة العربية في عصرهم، ويأتي بعد مرتبة هؤلاء العازفون، وكانوا أصحاب (الأعواد والرباب)، ويلي العازفين طبقة القيان اللواتي كنّ يشتركن في الحفلات من وراء الستار، وقد فاق بنو العباس في بغداد بني أمية في دمشق بمن أنجبوا من المغنين والضاربين على العود، فنبغ (إبراهيم بن المهدي) شقيق الرشيد في الموسيقا والغناء، ونال شهادة كبيرة، أما (الواثق) فكان يضرب على العود، وقد وضع مئة لحن، فكان بذلك أول موسيقي بين الخلفاء العباسيين، ومن بعده برز الخليفة (المنتصر) و(المعتز) اللذان أظهرا مقدرة كبيرة في الشعر والموسيقا، وكذلك الخليفة (المعتمد).
الموسيقا والحضارات القديمة
وكان الحدث البارز في العصر العباسي هو نقل الكتب اليونانية العربية وبينها مجموعة تبحث في الموسيقا النظرية إضافة إلى كتابين لأرسطو نقلهما إلى العربية الطبيب (حنين ابن إسحاق) 809- 873، أحدهما كتاب (الوسائل) والثاني كتاب (النفس)، وقد ترجم (حنين) أيضاً لـ(جالينوس) بعنوان (كتاب الصوت) وينسب إلى (إقليدس) كتابان ترجما إلى العربية هما كتاب (النغم) وكتاب (القانون) وكان لـ(الفارابي والرازي وابن سينا والغزالي) الفضل الكبير في تطوير الفن الموسيقي، إذ أخذت أوروبا منهم (النوتة) الموسيقية، كما أن الأندلس استطاعت أن تأخذ من بغداد ملامح الموسيقا العربية ومؤلفات المشاهير العرب في الفن والغناء والموسيقا.