لبنان بين المبادرة الخليجية وتقاعد «الحريرية السياسية»: نذيرَ شؤم أم خطوة تستحق التقدير؟
| فراس عزيز ديب
في الفلسفة قيلَ الكثير عن الحقيقة وطريقة التعاطي معها، لعل أفضلها هو الذي صوَّرَ الحقيقة على أنها استنساخٌ للواقِع وترجمة أمينة لهُ، لكن هذه الترجمة محكومة بصيغةِ القدرة على استقبال الواقع، هذه القدرة تتطلب أمرين، النظرة الواقعية والتحرر من كل تبعية فكرية تمنع الحرية من القيام بدورها، وإن كان هذا الصراع عاماً ولا يبدو أنهُ سينتهي قريباً، إلا أننا في هذا الشرق البائس نبدو أمام نموذجين في التعاطي مع الحقيقة:
النموذج الأول: الواقع كما هو وليس كما نحب
هذا الواقع غالباً ما يكون من صنع أعدائنا ونقع في فخِّه، فمثلاً وبعدَ الغارة الإسرائيلية على أحد المواقع السورية نهايةَ العام الماضي، نشر موقع صهيوني خبراً مفاده بأن مضادات جوية إيرانية هي من تصدت للهجوم في وقتٍ صمتت فيهِ المضادات الأرضية السورية، طبعاً كان الموقع الصهيوني عِبرَ هذهِ الكذبة يلعب لعبة خبيثة نجح من خلالها بضربِ أكثر من عصفورٍ بحجرٍ واحد، كتعويم فكرة أنه يقصف مواقع إيرانية في سورية وليس أهدافاً مدنية، أو إظهار ترهل الدفاعات الجوية السورية وعجزها بما يساهِم بتفاقم الغضب الشعبي على هذه الغارات، على هذا الأساس هناك من دخل في صراعٍ بين الحقيقة والرغبات فصدَّقَ الرواية التي تسيء للجيش العربي السوري لأنها في مكانٍ آخر تُعلي شأنَ القدرات الإيرانية، ولعل كل من صدَّق يومها هذه الرواية الصهيونية عليه أن يسأل نفسه: لو كان الخبر الصهيوني متعلقاً مثلاً بالديمقراطية في إيران هل كنتم ستتناقلونه؟ بالمنطق العام فإن الإعلام الصهيوني إما كاذب بالمطلق أو صادق بالمطلق لا يمكن أن أختار منه ما يناسب تفكيري لأبني عليه ما يتعارض مع الحقيقة والواقع.
النموذج الثاني: الصراع بين ما نريد وما سيكون!
هذا النموذج هو من صنعِ أيدينا تحديداً عندما نستسلم للنظرة المسبقة لكل ما يدور من حولنا سياسياً واجتماعياً، ويدرك الجميع أن العالم يمر اليوم بتداخلاتٍ تبدو كأنها عصية على الفهم إلا من خلال زاوية واحدة: هذا التصادم الواصل إلى حد الانفجار سيحمل الكثير من المفاجآت، بما فيها شكل التحالفات والعلاقات الجديدة على مستوى العالم وهذا باتَ واضحاً، لا يمكن للشعارات ذاتها أن تعمِّرَ حتى تُبعَثوا، تحديداً عندما تضيع الأدوات وتتبدل الظروف، وهذا منطقي في سياق بناء المستقبل، لكن بالوقت ذاته لا يمكن لنا التعاطي مع أي حدثٍ من منظور عواطفنا، هناك دائماً جانب خفي في بعض الأحداث قد يبدو جانباً مضيئاً لكننا نصرّ على عدم رؤيته، حتى في جلوسك مع عدوك إلى طاولةِ المفاوضات هناك جانب مضيء، فرنسا وألمانيا نموذجاً!
خلال الأسبوع المنصرم طفا على السطح الحديث عن لبنان بما فيها إعلان رئيس تيار المستقبل سعد الحريري اعتزال العمل السياسي والمبادرة الخليجية برعاية كويتية بهدف إعادة العلاقات مع لبنان، وعلى هذا الأساس بدأت الحملات والحملات المضادة، هناك من يشمت بهذا القرار ويعتبره انهزاماً للحريرية السياسية، وهناك من يراهُ تحضيراً لمعركة مذهبية قادمة وقودها الشعوب البريئة، لكن ألا توجد قراءة وسطية تحاول الابتعاد عن عواطف كل الرؤوس الحامية؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال لابد من التعاطي مع النقاط التالية:
1- من الضروري أن يفهم البعض فكرةَ إخراج سورية من هذا السجال، بمعنى آخر فإن ترتيب الأولويات في سورية اليوم قد لا يكون فيه مكان أساساً حتى لوضع فكرة بقاء سعد الحريري من عدمه على الهامش، ويعلم العدو قبل الصديق في هذا الشرق البائِس، أن آخر ما تفكر بهِ القيادة السورية اليوم هو التشفي بالأشخاص، بل مشهودٌ لها فكرة تجاوز الخلافات الشخصية بما يحقق الصالح العام في لبنان أو غيره وهي قامت بذلك قولاً وفعلاً، ففي الوقت الذي كان فيه البعض مثلاً ينتظر رفضَ سورية إمداد لبنان بالغاز والكهرباء، كان لسورية كلام آخر.
بالسياق ذاته فإن سورية كانت وما زالت تعتبر أنها معَ ما يتفق عليه اللبنانيون، على هذا الأساس سورية لا يعنيها من يذهب ومن يبقى في السياسة اللبنانية، هذا إن افترضنا أساساً أن في لبنان هناك «عمل سياسي»، وما يعني سورية من تورطَ أو لم يتورط بدماءِ أبنائها.
2- يعرف القاصي والداني أن لا حل في لبنان إلا ببناء دولة تتخلص من إرث الطائف، لكن بنظرة موضوعية فالجميع من دون استثناء يتمسك بالطائف لأنه يؤمِّن النظام المثالي الذي يحقق له السطوة، بالوقت ذاته فإن الكلام عن سحب السعودية سعد الحريري بهدف تعويم شخصية «سنية» أكثر صلابة أو «تطرفاً» لتفجير الوضع الداخلي في لبنان هو هرطقة بل هو مسيء لكل السنة في لبنان، ويظهرهم كأنهم تبَّع، ثم لماذا على البعض أن يفكر برغبة سعودية بتفجير لبنان؟ هذه الأسطوانة المكررة تشبه إلى حد بعيد خطابات رمي إسرائيل في البحر، عبارة عن فزَّاعة لا أكثر، والسبب هنا قد لا يعود للسعودية أو غيرها ولكن بنظرة موضوعية هل يوجد تفجير أكبر من الذي يعيشهُ لبنان حالياً؟ بلد منقسم، رئاساته الثلاث معطلة واقتصاد منهار والقادم لا يبشر بالخير ألا نسمي هذا تفجيراً؟ أليس ما يجري هو قوام الحرب الناعمة التي نجح أعداء لبنان وسورية في فرضها، بينما ما زلنا نكرر شعارات بلهاء عن الوقوف بوجه «الهجمة الشرسة»؟!
3- لنحاول أن نخرج قليلاً من سياسة التشفي، ماذا لو نظرنا إلى الخطوة السعودية خارج سياق الانكسار أو التآمر؟
قد لا تعجب البعض هذه الدعوة، لكن ليس كل ما يعجبنا هو ما سيتحقق، ماذا لو كانت الخطوة السعودية هي نوع من رمي الكرة في الملعب الآخر؟ بمعنى آخر فإن ما قامت به السعودية اليوم يشبه إلى حد بعيد فكرة الانسحاب من الملف اللبناني، لكن هذا الانسحاب لا يبدو أنه من دون تبعات، هذا الانسحاب سيعني ببساطة أن على من كان يعتبر أن المشكلة سعودية بالمطلق أن يتفضل اليوم ليقدم خطوات إنقاذ هذا البلد، ولعل أول هذه الاستحقاقات تفريغ الانتخابات القادمة من أهميتها حتى قبل أن تبدأ، فهل سيكون للبنانيين القدرة على استغلال هذه الفرصة واللعب بورقة التراجع السعودي في لبنان ليبدؤوا بالتحرر من كل ما قد يساهم بربط هذا الحزب أو ذاك بهذه الدولة أو تلك؟ في سياقٍ متصل نجحت السعودية عملياً بتحويل الخلاف من «سعودي – لبناني» إلى «خليجي – لبناني»، وهذا ما قلناه سابقاً بأن خطوة الاستثمار بما يسمى المعارضة السعودية خطوة فضفاضة على لبنان وهذا بدأ يطفو على السطح تدريجياً فهل تلقى المبادرة الخليجية أذرعاً ممدودة بمعزل عن بعض النقاط الخلافية كسلاح المقاومة؟
وحدهم اللبنانيون من بيده الجواب، لكن عن أي لبنانيين نتحدث بالضبط؟ بمعنى آخر في حالٍ كحال لبنان ليسَ عليك أن تنتظر الجواب عن سؤال كهذا لأن مفاهيم السيادة والاستقلال هي من نوعٍ خاص ليست موجودة في كل المناهج الدستورية، كارثة كبرى لو أننا طبقنا مفهوم الحقيقة كترجمة للواقع في الملف اللبناني!