قضايا وآراء

عن إعادة توزيع الدعم و«المدعومين»

| الدكتور أسامة دنورة

لعل أبرز الإخفاقات التي اشتركت فيها الحكومات السورية المتعاقبة على مدى بضعة عقود، هي غياب التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي الطويل الأمد، فقد اعتمدت الحكومات المتعاقبة منذ مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، على ريع الثروة النفطية لتعديل الميزان التجاري الخاسر، والخروج بصورة لا تعكس حقيقة الفجوة الهائلة بين الصادرات غير النفطية والواردات.

الثروة النفطية لدينا محدودة جداً في حجم إنتاجها وفقاً للمعايير الدولية، فالإنتاج النفطي السوري، قبل عام ٢٠١١، كان يقدر وفق المراجع العالمية المعنية بـ٣٨٠ ألف برميل نفط يومياً، مقابل ٨ إلى ١٠ ملايين برميل يومياً للسعودية على سبيل المثال، ولكن هذه الثروة استخدمت، على ضآلتها، في تشويه معادلة «الإنتاج – الاستهلاك» التي ينبغي أن تكون متوازنة من دون الاعتماد على ريع أي من الثروات الباطنية التي يعتبر النضوب مآلها الحتمي.
متكئةً على هذه الثروة، استمرت الحكومات المتعاقبة في اتباع سياسات «دولة الرعاية» بصورة غير متبصرة اقتصادياً ومجتمعياً، وفي طليعة هذه السياسات كانت سياسات الدعم التي تعتبر غير منصفة تجاه الطبقات الفقيرة، والتي أدت من حيث المحصلة إلى حرمان هذه الطبقات من حظوظها في الإفلات من الفقر، عبر حرمانها من فرص تمويل مشاريعها الصغيرة الخاصة، أو خلق فرص عمل حقيقية لها عبر إنجاز مشاريع إنتاجية حكومية.
باختصار تتوزع أي تركيبة للموازنة العامة بين بندين رئيسين، الإنفاق الجاري والإنفاق الاستثماري، والأخير هو الأساس في تحقيق النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر، فهو الذي يستطيع أن يخلق نمواً اقتصادياً عاماً وفرصاً للعمل، وهو الذي يستطيع بالمحصلة أن يحقق مستوىً جيداً للدخل والمعيشة.
ومن هنا نجد أن الدعم الموجه إلى «سلعة» هو دعم عشوائي و«أعمى»، لأنه يصب في مصلحة الأثرياء والمكتفين مادياً والفقراء والمحتاجين بالقدر نفسه، فهو بالمحصلة «دعم ظالم»، لأنه يسحب من الموازنة العامة أي فوائض يمكن ضخها في الميزانية الاستثمارية التي يمكن لها أن تنتشل الفقراء من فقرهم، وفي المقابل يتم منح الفئات المكتفية والثرية دعماً بإمكانهم الاستغناء عنه ببساطة.
إن فلسفة الدعم العادل لا يمكن أن تتم بتوجيه الدعم إلى «سلعة» بل إلى «طبقة»، وهذه الطبقة أو هذه الشريحة المجتمعية هي بلا شك الشريحة المحتاجة والفقيرة، والتي تحتاج إلى الدعم المعيشي إلى جانب حاجتها الأهم لتدعيم الميزانية الاستثمارية التي يمكن أن تنتشل المحتاجين من حلقة الفقر المفرغة التي يتم توريثها غالباً إلى الأبناء والأحفاد، فـ«التمكين» و«تكافؤ الفرص» المنصوص عليهما في دستور الجمهورية العربية السورية لا يمكن أن يكونا بمعاملة الغني كما الفقير، بل بدعم الأخير ومنحه الفرصة ليجد مكاناً له تحت الشمس، بما يقلص الفوارق الطبقية إلى حدود دنيا.
وللإنصاف نقول إن سياسات الدعم الحكومي العمياء «misguided government incentive and subsidy policies» ليست إخفاقاً مقتصراً على التخطيط الاقتصادي السوري فحسب، بل هي من معالم سوء التخطيط الاقتصادي العربي، ففي الدول العربية يشكل الدعم نحو 5.7 بالمئة من الناتج المحلي GDP وهي نسبة تفوق بكثير المعدل الموجود في بقية الدول النامية والذي يبلغ نحو 1.3 بالمئة فقط.
إن العدالة الاجتماعية في جوهرها، بل الاشتراكية أيضاً، تقوم على دعم الفقراء بما يفيض عن حاجة الأغنياء وليس العكس، وقبل أربعة عشر قرناً من زمننا الحاضر قال الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وقسمتها على الفقراء»، ومن هنا فالدعم، سواء كان لسلع أو خدمات، يجب ألا يكون شاملاً للجميع، بل يجب أن يُخصَّ به من كان به خصاصة، وأن يُحجب بالمقابل عمن كُفي همَّ رزقه، وفي ذلك تحقيقٌ للعدالة وتكافؤ الفرص.
من جانبٍ آخر، ففي بلاد فيها نسبة كبيرة من التزايد السكاني يلتهم الدعم غير المدروس أي فوائض في الموازنة أولاً بأول، والنتيجة زيادة في تعداد السكان من دون زيادة موازية في حجم الاقتصاد، فتتقاسم أعداد متزايدة من السكان الموارد الإنتاجية المحدودة ذاتها، وصولاً إلى انفجار هذه الفقاعة الذي قد يتمثل بالانهيار الاقتصادي أو الاضطراب الاجتماعي.
ربما تكون سياسات الدعم العشوائي قابلة للاستمرار ضمن نموذج اقتصاد الدولة التي أطلق عليها جون ستيوارت ميل «الدولة الجامدة» أي «steady state economy»، والتي لا تزيد سكانياً ولا تتناقص إلا بهوامش ضيقة، أما في حالة المجتمعات التي تعاني من «القنبلة الديموغرافية» أي «demographic bomb» فالدعم العشوائي هو وصفة للفقر المتزايد والفشل الاقتصادي.
ليس من قبيل الإعجاب بمجمل السياق الذي أتى به نيكولا ميكيافيللي في كتابه الشهير «الأمير»، ولكن حكمةً قالها كنصيحة «للأمير» لا أجد مفراً من الإقرار بصحتها، ومفاد هذه الحكمة قوله: «إنه لا توجد خصلة مهلكة لذاتها أكثر من الكرم، فكلما مارسته أكثر فقدت القدرة على ممارسته لاحقاً»، وهذا بالطبع ينطبق على حال الدولة وموازنتها، فكلما مارست «الكرم» تجاه من ليس بحاجته أصلاً فقدت القدرة على ممارسته تجاه مستحقيه.
سورية اليوم تخرج من حربٍ ظالمة فرضت عليها، وأدت إلى خسائر هائلة في البنى التحتية والإنتاجية على حد سواء، وهي في حاجة ماسة لإعادة الإعمار، ولكن أي مشروع «مارشال» هنا لن يكون من دون ثمن سياسي أو اقتصادي، وكلاهما مترابط، فالدول، العدوة منها والصديقة والشقيقة على حد سواء، ليست بجمعيات خيرية، والبديل الوحيد رغم صعوبته ومحدودية إمكاناته هو الاعتماد بصورة أساسية على الذات، وعندها يكون استقطاب الاستثمار الخارجي مبنياً على أساس وجود الحد الأدنى من التمويل الذاتي المستقل، ومن هنا فإن إعادة توجيه الإمكانيات الذاتية بصورة أكثر عدالة تبدو خياراً لا بديل منه.
من جانبٍ آخر فالدعم الموجه لمن لا يحتاجه هو أقصر طريق نحو تعميم روح الاتكالية وانعدام المسؤولية وقتل المبادرة الفردية، فهو يشيع ثقافة الهدر والاستهتار بالموارد والأرزاق ما دام الحصول عليها، بالنسبة للميسورين، يتم بأبخس الأسعار، وفي موروثنا الثقافي والديني والشعبي النعمة التي لا تُقدر حق قدرها مآلها إلى زوال.
في سياسات الدعم العمياء، أو السيئة التوجيه، تدعم الدولة بالخبز والمحروقات والكهرباء والتعليم والطبابة جميع الشرائح بجميع مستويات مداخيلها، فيتراجع مستوى الخدمات المدعومة برمتها، لأنها بمجملها تصبح قطاعات خاسرة ومستنزِفة للمال العام، فلا هي تُرضي الغني بمستواها، ولا هي تكفي حقاً لسد حاجة الفقير، بل إن الغني يبقى الأكثر قدرةً على تحصيل الدعم بأفضل صوره من واقع علاقاته ونفوذه على حساب المستحقين الحقيقيين، ناهيك عن حالات الفساد التي تشوب عمليات توزيع الدعم العشوائي، ويضاف إلى ذلك أن الدولة في هذه الحالة تؤمن للجميع، محتاجين ومكتفين، متطلبات المرحلة التأسيسية من النمو البدني والعلمي بصورة شبه مجانية، ثم تقف عاجزة عن تأمين الموارد الكافية لخلق فرص العمل والإسكان والزواج، فتتفاقم المشاكل الاجتماعية، وتظهر العشوائيات السكنية، وينزع العاطلون عن العمل إلى الآفات الاجتماعية والأخلاقية، أو إلى النقيض المتمثل بالتطرف الديني أو السياسي، وتلك برمتها وصفات للانفجار أو الانهيار، أو كلاهما معاً.
وفيما يتعلق بوضع الاقتصاد السوري على وجه الخصوص، فإن خطوة إعادة توجيه الدعم لمستحقيه على أهميتها الاقتصادية والاجتماعية، ليست وحدها إلا بديلاً تعيساً من الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي يجب أن يشمل تحقيق العدالة الضريبية، ومكافحة التهرب الضريبي، ومكافحة الاحتكار في القطاعات الاقتصادية والخدمية، ومحاربة الفساد الكبير قبل الصغير، وتحقيق تكافؤ الفرص، والابتعاد بقدر الإمكان عن مشهد «رأسمالية المحاسيب» أو الـ«crony capitalism» الذي يعتبر البعض أن ملامحه تزداد باطراد في المشهد الاقتصادي، فإعادة توجيه الدعم يجب أن تترافق في الوقت ذاته مع رفع الغطاء عن أصحاب السطوة من «المدعومين».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن