ثقافة وفن

على وجوههم تكشيرة الفارس المغدور … الشاعر العماني سيف الرحبي يكشف الأسماء المستعارة للسحرة في نصوصه

| إسماعيل مروة

سيف الرحبي شاعر آخر ومختلف، إذا ذكر الشعر الحديث فهو من المجلين المجددين الذين يذكرون، وإذا ذكر شعر الخليج فهو من المشاهير الذين أغنوا التجربة الشعرية في الخليج، وكان صوتاً رائداً تبعه الكثيرون، وإذا ذكر الشعر العماني فسيف الرحبي ابنه وشاعره، والرجل الذي عمل من أجله صحافة وإبداعاً ليعزز اسم الشعر العماني وإسهامه في خريطة الشعر العربي، ولذلك كان موجوداً ومؤثراً في كل منبر للإعلام والشعر، من نزوى إلى نزوى مروراً بكل منبر كان للشعر والتأمل فيه المكان الأرقى.

سيف والشهرة والشعر

لم ألتق الشاعر سيف الرحبي مطلقاً، مع أنني قرأت شعره وأحببته، وتابعت رحلته في الدوريات الأدبية المتخصصة وتمنيت أن تكون عامة ومعمّمة في سائر البلدان العربية، وفي كل مرة كنت أسمع بوجوده، أسعى، لكن الوقت يسبقني، وذاك تكرر مرات خلال تدريسي في جامعة الإمارات، وبقي اسم سيف الرحبي اسماً مهماً عندي، أحب قراءته وأتذوقه، وتروقني مغامراته الأدبية لأنها مغامرات الخبير العارف، وكلما انتهيت من قراءة قصيدة له، أو قراءة دراسة شعرت بذلك النفس الخاص الذي يمتلكه، وهو من الأسماء الأولى التي أبحرت بثقة في رمل الخليج ومياهه، لتشكل تياراً شعرياً حداثياً له عمقه ودلالته ورموزه، هذه الدلالات التي لا تقف عند حدود عمان أو الخليج، بل تمتد إلى عمق الجرح العربي والألم العربي، الذي يأخذنا إلى عمق التاريخ، وإلى مجاهل غير مدركة في مستقبل لا نعرفه.. وقد شكل سيف الرحبي مع أحبابه وأصدقائه شبكة صحفية أدبية ذات خصوصية، انتقلت لتترك أثرها في أرجاء الوطن العربي، وهذا ما جعل سيف الرحبي أكثر أدباء الخليج شهرة ومعرفة خارج حدود الخليج.

حيث السحرة

كنت أتناول كتاباً مصدراً من رفوف المكتبة، فإذا بكتاب لطيف يختبئ تحت عباءته خرج معه، كانت صورة سيف الرحبي تزينه، فأعدت المصدر، وأخذت ديوان سيف الرحبي لأقرأه، شدهت فكأنني أراه أول مرة مع أن الإشارات في الكتاب اللطيف تدل على أنني قرأته عند اقتنائه 2009، فرددت الجدة التي حصلت عليها في قراءته إلى أمرين:

1- شعر سيف الرحبي وما فيه من رموز ودلالات وجرأة وتجديد.

2- وجود إرهاصات في الديوان يمكن أن تظهر جوانب مما حدث في المنطقة العربية.

وماذا عن السحرة؟ ولماذا ينادون بعضهم بأسماء مستعارة؟ ولماذا النداء أصلاً؟

أين السحر والساحر؟ أين سحرة فرعون؟ هل ألقوا عصيهم؟ أين كبير السحرة؟

لا وجود لكل هذا إلا في ثيمة الأسطرة التي يسبغها الرحبي على قصيدته التي تحمل اسم الديوان، وقد تحولت كل الرموز إلى أساطير غادرتنا بفعل النبوة وتركت أثراً، أو تمشي بيننا بالدم المتيبس، والقصيدة التي تحمل اسم الديوان غنية بالمعاني والدلالات، وكتبها شاعرها بتقنيات عالية تجمع بين الحكائية والرمز ليقدم نصاً غنياً للغاية.

نبوءة الشاعر

لابد من التسليم بأن قدرة الشاعر ومكانته تتناسب مع عمق رؤيته واستشرافه وتحليله، ولا يجوز بحال حصر هذه الرؤى والاستشرافات بشعراء قدامى أو محدثين من المشاهير على المستوى العربي، الذين قالوا بيتاً من الحكمة أو ما شابه، كذلك كان الحال مع عدد من الشعراء المحدثين، أو الذين اتبعوا المنهج الحديث في الشعر، سواء اتفقنا معهم في أسلوبهم ونهجهم الفني الشعري أم لم نتفق، وسيف الرحبي أخذ الكثير من مكانته فناً وشهرة من هذا الاستشراف، ومن رؤاه التي لم تكن محصورة في البيئة الجغرافية له، بل انطلقت في آفاق عديدة من الشام إلى القاهرة وبغداد لتعود إلى الخليج، وعمان.

نعم هذه هي البلاد
هذا هو الوطن العربي التائه
بين خرائط ومسافات
أي لعنة مخبأة بين ضلوعنا
أي صرخة يتسلقها جوعى ومقاتلون
في حروب عبثية؟
أي كوكب يتداعى في الرأس
بمثل هذا العتق والانهيار؟
أي قطار مندفع في براكين الدم
تشيعه النظرات الوجلة
ليتلاشى في هباء الدخان؟

هذا النص البديع والعميق يعود نشراً إلى 2009 وإبداعاً إلى مرحلة قبل ذلك، وهي جزء مهم من رؤية الشاعر الذي قرأ، ويشاهد ويستشرف، لذلك رافقته الحيرة، واستدعى اللعنة، وقرأ وطنه العربي في التيه حيث لا يجد نفسه، هذا ما كان، وهذا ما هو كائن، لذلك كان ينعاه وهو يتلاشى في هباء الدخان.

الشعر اللوحة والفكر

ثمة جناحان أحدهما يعنى بالصورة والآخر يعنى بالفكر، وليس بينهما أي نوع من التلاقي، فهذا يغلِّب الصورة، وذاك يغلِّب الفكرة، وقلة هم الشعراء الذين أوجدوا نوعاً من المصالحة بين الصورة والفكرة، فالشعر ليس للغناء دوماً، وليس بحثاً في عويص الفلسفة! وفي هذا الديوان المقدم للإنسان العربي، ومن منبر يتيح له أن يصل نقرأ هذه المزاوجة بين الصورة والفكرة.

لوحة المدينة
التي أبدعها الرسام
قبل انتحاره بقليل
وصيته الانتقامية الأخيرة
تقول، إنها لوحة جميلة
رسمت بعناية صانع أنيق
بحبر الضحايا المندلق على الوجوه
بأفراح جلاديه
لوحة واقعية
واقعية جداً، حدّ الفضيحة والهاوية

أمام نص فيه من الصور الكثير، وفيه من الفكر الكثير أيضاً، وللقارئ أن يختار كل مفردات النص وأن يوجهها لأن الشاعر أرادها كذلك غنية جداً وتحمل فكرة عميقة تتعلق بالصراع الأزلي بين الجلاد والضحية، بين المدينة ولوحتها، بين الواقع والحلم، وبلغة واقعية مقروءة ومفهومة للغاية، ومن دون أي تلاعب بالفكرة أو ابتعاد عما يمكن أن يجعلها قريبة المأخذ.

الحياة والبقاء

ومن حكاية الجداول يقول الشاعر:

وسط أجواء المجازفة والخطر
حيث الذئاب تعوي جائعة
إلى افتراس أثداء الأمهات
والبروق ترسل صواعقها الغاضبة
في المنحدرات الأكثر رعباً
لسقوط الكائن
ويكون الموت
قاب قوسين أو أدنى
تشرق الروح بسناء سعادة ممكنة

هذه الصورة الرمزية الشفافة يصوغها الشاعر لوحة ولا أبهى، ويترك العنان للتفكير بأن يقف عند كل فاصلة للموت، سقوط الكائن، الرعب، السعادة الممكنة.. ويقابل كل تفصيل من هذه التفصيلات الضدّ الذي لم يذكره الشاعر، وتركه للخيال والتصور، فأي رعب كان ينتظر المدائن والجداول والإنسان؟

إنها قراءة الشاعر الممكنة، وما بعد الممكنة لحياة تسكنها البلادة والسكينة لتجابه الموت بموت، وبما يمكن من السعادة المزعومة.

البحث عن الذات

لا مشكلة عند سيف الرحبي في قراءة الذات، مهما كانت هذه الذات متعبة ومشظاة، إنه يبحث عنها، يشير إليها، لا يرتد إلى وراء، ولا يخفي صفات العابثين:

قهوة الصباح
خبر موت أو انتحار صديق
ضاقت به الأرجاء الشاسعة
وضاقت به الأبجدية
حيث لا نور إلا نور العدم الشفيف
حيث تسكن السلالة
ويزهر الزمهرير
أباطرة العدم في الربع الخالي
المتاخم لأساطير الطوفان
ينزلون من قلاعهم المشيدة جيداً
يكتسحون المدن الكبرى
وعلى وجوههم تكشيرة الفارس المغدور
العبارة تختنق
اللغة عقيم
الضفادع ترسل نداء استغاثة
في ليل العالم البهيم
والمدن غارت في مواقعها
مرتشفة لعاب كأسها الأخير

هل للسحرة من دور بعد هذا الواقع؟ هل يحتاجون إلى أسماء مستعارة؟ ليل العالم بهيم، والصديق انتحر، والخبر وصل مع قهوة الصباح، والضفادع تستغيث.. وللكأس الأخير لعاب مختلف!

شاعر ملأ الأسماع، ولا يحق التعريف به، لكن الواجب أن نسترجع صرخاته وخيباته في وقت لا يكفي فيه الصراخ والمدن الكبرى يتم اكتساحها، وتكشيرة الفارس المغدور تظهر للعلن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن