من دفتر الوطن

أبناء المعجزة

حسن م. يوسف :

من المعروف أن كل جيل يستخف بالجيل الذي يليه، لكن هذه القاعدة الظالمة لن تنطبق على هذا الجيل من شباب سورية لأنهم أثبتوا جدارتهم بالفعل. وما أكثر الحكايات التي لا تصدق في هذه الحرب المجرمة التي يشنها أشرار العالم على وطننا الحبيب سورية! بل ما أكثر وما أكبر المعجزات التي يجترحها أبناء سورية الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والثلاثين!
قبل بضعة أشهر بلغنا نبأ بأن ابن أختي باسل جميل سليمان طالب الضابط الطيار في مطار كويرس العسكري قد أصيب بطلق ناري اخترق صدره وذراعه أثناء هجوم الإرهابيين على النقطة المتقدمة التي كان يرابط فيها. لم يكن في النبأ ما يدهش ففي كل يوم يقدم جيشنا في مواجهاته مع الظلاميين عشرات الشهداء والجرحى، لكن نجاة باسل كانت أشبه بمعجزة متعددة المستويات، فإثر إصابته سقط أرضاً وبندقيته في يده، وعندما جاء أحد الدواعش للإجهاز عليه، شاءت الأقدار أن يكون مخزن الإرهابي فارغاً، ما مكن باسل من استجماع ما فيه من قوة وتوجيه بندقيته نحو الإرهابي والقضاء عليه قبل لحظات من غيابه عن الوعي!
المستوى الثاني من المعجزة تكشَّفَ عندما تمكن رفاق باسل من سحبه إلى داخل المطار، إذ تبين أن الرصاصة التي أصيب بها قد اخترقت عنق قنبلة يدوية كانت في جعبته ومرت على بعد ملليمترات من صاعق القنبلة من دون أن تنفجر! ثم اخترقت صدره وذراعه من دون أن تفتت أياً من العظام الحساسة في جسده!
المستوى الثالث من المعجزة هو أن باسل خلال فترة حصار مطار كويرس كان يعاني من نزيف داخلي لم يكن بوسع الأطباء إيقافه لعدم توافر المعدات ولا الظروف المناسبة للتدخل الجراحي، وبما أنه لم يكن من الممكن نقله لأي نقطة طبية فقد نزف الكثير من دمه، لكن قدرة الحياة فيه كانت هي الأقوى، فتراجع نزيفه مع الوقت، وتليف الدم المتجمع في صدره على شكل كتلة ضخمة حميدة تم استئصال قسم منها قبل أيام في مستشفى تشرين العسكري كما تم تقشير رئته، وهو الآن على وشك أن ينجز خطواته الأولى نحو السلامة.
قبل نحو عام دخلت إلى محل المصور الضوئي فارس هلال في قريتنا الدالية، فرأيته يقوم بوضع اللمسات النهائية على صورة لشهيد، في حين يقف قبالته عسكري بشكل موارب بحيث لم أتمكن من قراءة ملامحه، رمقت الصورة بنظرة سريعة فذهلت عندما وجدت أنها لشاب متطوع في مكافحة الإرهاب اسمه علي بارود! كنت قد التقيته وسلمت عليه صبيحة ذلك اليوم!
سألت فارس بتأثر بالغ: «متى استشهد صاحب هذه الصورة؟» وقبل أن يتمكن المصور من فتح فمه استدار العسكري الواقف نحوي مبتسماً، فإذ به علي بارود نفسه، قال بمزيج من الجدية والمرح والبساطة: «أنا لم أستشهد بعد! أنا الشهيد الحي»!
في الليل لم تعد جلّ البلديات تشعل مصابيح الطرقات في القرى السورية، إلا أن جلّ الدروب تبقى منارة طوال الأوقات التي لا يطولها التقنين، بفضل اللوحات الضوئية لصور الشهداء المثبتة إلى شرفات كثير من المنازل.
إنهم أبناء سورية –المعجزة- الذين يبددون العتمة في حياتهم وبعد استشهادهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن