توفيق طارق.. وأبو عبد اللـه الصغير … اعتمد الرمزية في حكاية الموضوعات المؤثرة … أسس لتيار كان له الفضل في الحياة التشكيلية السورية
| سعد القاسم
يرجع نقاد الفن ومؤرخوه بداية الفن التشكيلي السوري بمفاهيمه الحديثة إلى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وتجمع الكتابات التي أرّخت له، أو تحدثت عن بداياته، على اعتبار توفيق طارق (1875-1940) رائداً لهذا الفن، فقد كان مؤسس تيار شارك فيه بعد ذلك عدد من الأسماء التي أسست للحياة التشكيلية السورية، أمثال: سعيد تحسين وعبد الوهاب أبو السعود ورشاد مصطفى ورشاد قصيباتي. ومن ثم: محمود جلال وناظم الجعفري وميلاد الشايب، كما كان أستاذاً لعدد من الأسماء الفنية المهمة أمثال: رمزية زنبركجي وزهير الصبان وخالد العسلي وأنور علي الأرناؤوط. وإلى ذلك كان لحضوره الشخصي الصاخب والثري دور كبير في إثارة الاهتمام بما يمكن وصفه بالوافد الجديد إلى الحياة الاجتماعية السورية. وهو ما سنعود إليه لاحقاً.
الفن الحديث في المتحف
أما (أبو عبد اللـه الصغير) فهو اسم أول لوحة يلاقيها المشاهد في جناح الفن الحديث في المتحف الوطني بدمشق، منذ أن وضعها هناك مطلع الخمسينيات أمين الجناح الأستاذ حسن كمال، شاهداً على براعة الفنان. ودليلاً على وعي القائمين على المتحف لأهمية اللوحة الفنية والتاريخية. نسخ توفيق طارق هذه اللوحة عن جزء من لوحة استشراقية للفنان الفرنسي بول لوي بوشار رسمها عام 1893 تحمل عنوان (العوالم)، وفي المراجع الإنكليزية ترجمت إلى (رقص العالمة)، وهي محفوظة في متحف (أورسيه) في باريس. قام توفيق طارق بتغيير تكوين اللوحة ومناخها اللوني وبعض تفاصيلها كي يؤكد حالة الترف واللهو واللامبالاة التي يستغرق بها ملك غرناطة العربي أبو عبد اللـه محمد الثاني عشر آخر ملوك الأندلس العرب، في وقت كانت دولته مهددة بخطر الزوال، وهذا ما حصل فعلاً. فقد استسلم للملكين الإسبانيين فرديناند (ملك قشتالة) وإيزابيلا (ملكة أراجون). سماه الإسبان el chico (أي الصغير) وBoabdil (أبو عبديل)، في حين سماه أهل غرناطة الزغابي (أي المشؤوم أو التعيس). ووفقاً لرواية متداولة فقد بكى عندما ألقى النظرة الأخيرة على غرناطة من مكان ما زال معروفاً باسم (زفرة العربي الأخيرة) فقالت له أمه (عائشة الحرة) القول الشهير: «ابكِ مثل النساء ملكاَ مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال».
الرمز والهزيمة
يبدو أن توفيق طارق اختار (رمزية) أبو عبد اللـه الصغير كملك ترتبط باسمه الهزيمة النهائية في الأندلس، ليُدين من خلال هذه الرمزية فساد حكم ملوك الأندلس، وتفرقهم واقتتالهم فيما بينهم، وتغليبهم لمصالحهم الذاتية إلى حد التحالف مع أعدائهم. إذ لم يعرف عن أبي عبد اللـه الصغير استغراقه في اللهو بخلاف أبيه (أبو الحسن علي بن سعد) الذي تسببت نزواته، ومن ثم زواجه من أسيرة إسبانية تصغره بسنوات كثيرة، في نشوب صراع دموي بين أخوته وأبنائه كان له الدور الأساس في إضعاف مملكة غرناطة. والغريب في الأمر أن بوشار لم يشر إلى الأندلس في عنوان لوحته، واختياره لتسمية (العوالم) بمعنى الراقصات يوحي بأن مكان حدث لوحته هو في مصر، حيث يشيع استخدام هذا التعبير، وليس في الأندلس، خاصة وأن معظم لوحات الاستشراق في ذلك الوقت اتجهت نحو الشرق العربي. لكنه في الوقت ذاته صور على الجدار فوق رأس صاحب المجلس عبارة (لا غالب إلا الله) وهي شعار أمراء بني الأحمر في الأندلس، المنتشر بوفرة على جدران وزوايا قصر الحمراء في (غرناطة). وبتعبير آخر: إن بوشار الذي لم يشر إلى أي شيء أندلسي في عنوان اللوحة، ضمًن اللوحة ذاتها رمزاً أندلسياً لا لبس فيه، في حين أن توفيق طارق الذي أطلق على اللوحة اسم الملك الأندلسي الأخير، قد أزال هذا الرمز من لوحته.
اللوحة والأصول الغربية
كان الدكتور عفيف البهنسي أول من أشار إلى الأصول الغربية لبعض لوحات توفيق طارق. فقد جاء في كتابه (لمحة تاريخية عن الفن التشكيلي الحديث في سورية) الصادر عن وزارة الثقافة في دمشق، عام: 1964« لقد شهد توفيق طارق حين سفره إلى باريس مولد السريالية، إلا أنه لم يتأثر إلا باللوحات الرائعة التي زينت اللوفر لدولاكروا وجان أنطوان غروس وجوستاف كوربييه. بل لعله لم يكترث لآثار الانطباعيين الذين أثاروا ضجة كبرى منذ العام 1874، ولذلك فإن لوحاته لم تخرج عن حدود الإخلاص للأصل، وغالباً ما يكون هذا الأصل لوحة ينسج بعضها، ويضيف إليها نسجاً لأصل آخر، ثم لا يجد في ذلك غضاضة، بل إنه ليعتز بقدرته على النقل والتقليد»
أثيرت مسألة أصل لوحة (أبو عبد اللـه الصغير) أمام عامة الجمهور بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة، وتحديداً في آذار 1992 في ندوة تلفزيونية استضاف فيها الناقد صلاح الدين محمد كلاً من الدكتور عفيف البهنسي المدير العام للآثار والمتاحف، والفنان فيصل عجمي نقيب الفنون الجميلة، والدكتور عبد المنان شما عميد كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ورأى صلاح الدين محمد ضرورة الإشارة إلى أصل اللوحة، حتى لا يساء لسمعة رائد الفن السوري. وفي عام 2011 أشار الناقد الدكتور عبد العزيز علون إلى اللوحة في سياق إعداده لكتاب عن توفيق طارق فقال: «هناك لوحات نسخها عن لوحات عالمية كلوحة (أبو عبد اللـه الصغير) آخر الخلفاء في الأندلس، وهي لوحة استشراق، نسخها توفيق طارق كسبيل للتدريب والتعبير عن قدراته، مصوراً المرأة المتجردة والخليفة السعيد بين ثلاث من جواريه، واستطاع توفيق طارق تقديمها بلمسات دقيقة وجميلة».
اللوحة صورة للعلم
ثمة لوحة تاريخية ثانية لتوفيق طارق تُعرف باسم (مجلس المأمون) وهي نقيض اللوحة السابقة لجهة رصانة الأشخاص والمكان وطبيعة الحالة، فقد اشتهر هذا المجلس في التاريخ بأنه كان يضم على الدوام العلماء والفلاسفة والفقهاء، إذ تميز عهد المأمون بتشجيع الفلسفة والطب والرياضيات والفلك، وباهتمام خاص بترجمة العلوم والآداب السريانية والفارسية واليونانية، وتأسست خلاله جامعة (بيت الحكمة) في بغداد والتي كانت من كبريات جامعات عصرها. ومع ذلك فإنه من غير المؤكد أن اللوحة هي لمجلس المأمون، فقد وجدت دون عنوان، وأطلق عليها هذا الاسم في وقت لاحق. وأحد أسباب الشك في نسبها إلى العصر العباسي هو الطراز الأندلسي للعمارة والزخارف.