ثقافة وفن

غياب المشروع وخطورته!

| إسماعيل مروة

ليست غاية الثقافة والمثقفين ما نراه على المستوى العربي من أنشطة هنا وهناك، فأغلب هذه الأنشطة إعلامية إعلانية لا تقدم فائدة لاختمار الفكر..! وليست غاية النشر والتأليف أن نقوم بالنشر التراكمي، مع أهميته، إلا أنه يبقى فردياً في إطار فردي، فالثقافة والفكر وقبل كل شيء، هما مشروع وطني وقومي متكامل، ولا يمكن أن يكون شأناً فردياً، فمع أهمية الفرد ونبوغه، إلا أنه لا يشكل مشروعاً.. وعلى سبيل المثال إن براعة نجيب محفوظ الروائية لم تخلق مشروعاً روائياً، وإنما صنعت مجموعة من الكتاب، واحد نجيب محفوظ سورية، وواحد نجيب محفوظ الجزائر وهكذا..! وبراعة نزار قباني الشعرية لم تكن قادرة على خلق مشروع شعري عربي، وبقي الشاعر ظاهرة يأتي من يترسم خطاها، ويقلدها ويتحول إلى ظل باهت لا يترك أثراً..! وإن كان نجيب محفوظ قد أسهم في مشروع فهو صاحب مشروع لا يلتفت إليه النقاد كثيراً، وهو مشروع صناعة السيناريو السينمائي، ونقاد السينما ومؤرخوها يعرفون أن ما عمله نجيب محفوظ من سيناريوهات عن أعماله، وعن سواه من الروائيين أسست لسينما عربية كلاسيكية، عملت على تطوير صناعة السينما وفن السيناريو.. هذا يقودنا إلى القول: إن الظاهرة الفردية لا تمثل مشروعاً تنويرياً ينشر الوعي في أرجاء الوطن الصغير والكبير.. حتى على المستوى الحداثي والحديث نجد أن أنسي الحاج ويوسف الخال وأدونيس أسسوا لحداثة أدبية مهمة للغاية، وترافقت مع مجلة «شعر» الكبيرة سواء وافقها النقاد أم لم يوافقوها، فكانت منبراً للمشروع كما كانت «الرسالة» منبراً للتيار التقليدي الديني، وليس بإمكان أي مشروع أن ينهض دون منبر ومجلات ودوريات، واستطاعت الحداثة أن تشكل تياراً من خلال مجلة «فصول» المصرية الذائعة الصيت وذات القيمة الفكرية والنقدية العالية.. وحين كنا طلاباً كان أساتذتنا يرشدوننا إلى قراءة أعداد منها، لندرك فيما بعد أنها كانت منبر الحداثة في الأدب العربي ونقده..

وبقيت «شعر وفصول» من الظواهر المضيئة، ولكنها لم تتوسع، ربما بسبب الأنا، ربما لأسباب أخرى، لتتحول إلى مشروع له منتموه وخصومه، وفي كل المراحل اتسمت معاركنا الأدبية والنقدية برفض الآخر وتسفيهه لا تقبله، والحوار معه ومناقشته..1

الثقافة والفكر والنقد والأدب ليست أنشطة آنية، وأي نشاط لا يتحول إلى ظاهرة لها أثرها الباقي لا قيمة له على الإطلاق! مجموعة من الأشخاص مهما كانوا مهمين ورائعين، يتحدثون، يتحاورون، ثم يطوون البساط ويرحلون كأي مجلس، وفي اليوم الثاني يتحول اللقاء إلى ذكرى! لابد لأي نشاط يجب أن يدوّن وأن يحفظ وأن يؤرشف، وأن يبنى عليه القادم، للانطلاق إلى مرحلة أعلى تتجاوز هذه المرحلة، وتصل إلى مراتب أخرى، وغير ذلك تبقى الأنشطة واللقاءات بروتوكولية لا قيمة لها، وشخصية ترتبط بأشخاص وجودهم أسهم، وغيابهم أدى إلى غياب المشروع الذي قد يكون فعالاً ومهماً..!

أركز على الجانب الثقافي والأدبي لسببين اثنين، أولهما الاختصاص، وعلى كل امرئ مهما بلغ من المعرفة أو الحذلقة أن يلتزم اختصاصه، لأنه يمكن أن يعرف تفاصيله، وثانيهما الإيمان المطلق بأن المشروع الفكري والثقافي هو المشروع الأكثر أهمية والأكثر قيمة، والأكثر قدرة على التغيير من المشروع السياسي أو العسكري أو سواه، وأتقبل رفض هذه الفكرة أو معارضتها، لكن سيرورة الزمن تؤكد بما لا يقبل الشك عندي على الأقل بأن المشروع الفكري والثقافي هو المشروع الأهم، فهو الذي لا يجد معارضة في الداخل والخارج على العمل فيه والانخراط تحت لوائه، وهو المشروع الذي لا يحمل تكاليف باهظة، ويعطي نتائج مذهلة، وهو الذي يمكن أن يتغلغل في العقل والذهن والعاطفة فيؤدي عملية تغييرية مجتمعية غاية في الأهمية والخطورة.

إن جيلنا يذكر ويتذكر الأثر الثقافي الكبير للدوريات والكتب ذات التوجه اليساري، والتي كانت توزع في معارض الكتب بالمجان، وفي معرض دمشق الدولي، وكانت تباع بأثمان بخسة في دور النشر التي تتبنى هذا التوجه، وهذه الدوريات إضافة إلى الكتب والروايات استطاعت أن تخلق جيلاً من المتأثرين بالأدب الواقعي وصولاً إلى التأثر بالماركسية، وهذا حقق مشروعاً متكاملاً، بغض النظر عما آلت إليه الأمور لأسباب شخصية أو سياسية.. والمشروع الاستهلاكي الغربي الذي كنا نقرأ عنه في بدايات الحديث عن العولمة كان فكرياً وثقافياً، ونتيجة الاصطراع الشديد بين التيارات الفكرية، وامتلاك هذا المشروع أسباب التفوق، وجدنا الأثر الكبير له في كل صعيد، ولم نعد ننظر إلى المنطلق الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه!!

في مجتمعاتنا العربية أمضينا أعماراً، ونحن نعتني بالفرد وندعي عنايتنا بالمجتمع، ونظرنا في الظاهرة الإعلامية، ولم نبحث في المشروع الثقافي الذي يمكن أن يؤسس لحياة مختلفة على كل صعيد من دون أي شعارات أو دعوات أو جهود!

ومع ذلك سندّعي بأن الثقافة غير مهمة وغير مجدية، وندافع عن الأشياء الهشة التي قدمناها..! أكثر من مئة عام والمشروع الثقافي النهضوي غائب عن خططنا، ونعرف أن الغرب نهض به ومن خلال سرقته!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن