اقتصاد

اقتراح برسم الحكومة … سداد العجز ضرورة ملحة وهو بحاجة للبحث في أسبابه .. والإبداع في استثمار وفوراته بحل يرضي الجميع

| عامر إلياس شهدا

العجز سياسة تقوم من خلالها الحكومات بالاستدانة الداخلية من أجل الإنفاق على المشاريع الاقتصادية، لكن توغل الحكومات في الاعتماد على العجز سيؤدي بالنتيجة إلى ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم وتراجع قدرة الدخل على الاستهلاك نتيجة ارتفاع الأسعار ويؤدي ذلك للركود الاقتصادي.

هذا في الواقع ما يعانيه الاقتصاد في سورية، والمشكلة الأساسية أن الحكومة لم تستخدم الأموال التي استدانتها في المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى تقليص البطالة ورفع المستوى الكلي للدخل وبالتالي تنشيط الطلب الذي بدوره يسهم في تحفيز الاستثمار والاستهلاك وتنشيط الطلب مرة أخرى والخروج من حالة الركود وتحقيق الموارد.

في الواقع الحكومة لم تستخدم ما اقترضته في تمويل المشاريع فالبلد في حالة حرب أدت إلى تراجع الموارد ما اضطر الحكومة للاقتراض من أجل تأمين الحاجات الأساسية للمجتمع ولكن هذا الأمر لا يعفيها من مسؤوليتها تجاه ما أنتجه سوء في إدارة الموارد المتاحة والمقومات المتوفرة في الاقتصاد السوري، كما أنه لا يعفيها من تداعيات قراراتها المتسرعة التي أدت إلى تعاظم التضخم رغم علمها بوجوده نتيجة الإستدانه، ولا يعفيها من تداعيات اعتمادها على رفع الأسعار لتحقيق موارد تستورد فيها الحاجات الأساسية للبلد وبنفس الوقت تقوم بالاستدانة. وهنا لا ننكر أن الحكومة حاولت تغطية عثراتها من خلال الدعوة والتشجيع على الاستثمار إلا أن هذا الطرح غير مجد في بلد يعاني من تهالك البنية التحتية وغياب القدرة على تلبية متطلبات الاستثمار وتراجع الطلب الكلي نتيجة ضعف الدخول.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العجز يكون مجدياً عندما ينعم البلد باستقرار اقتصادي ونمو حقيقي واستثمارات تحقق موارد تمكن من سد العجز في المستقبل؟ مما ذكرناها أعلاه نجد أنه من خلال الواقع أن الحكومة اتبعت سياسة معالجة النتائج إلا أنها لم تعالج الأسباب وتحلل أسباب العجز الذي لم ينتج عن تمويل مشاريع اقتصادية تعثرت وإنما عن نفقات لا تحقق موارد بل تعمق العجز الذي قاد الاقتصاد إلى حافة الانهيار.

في الموازنة العامة للدولة بلغ العجز مرحلة خطرة جداً، ووضعنا أمام خيارين إما المضي في العجز وتحمل نتائج الانهيار الاقتصادي للبلد أو معالجة أسباب العجز الناتج عن الدعم، حيث أوضح وزير المالية كتلة الدعم في الموازنة العامة على الشكل التالي:

إن الدعم في الموازنة للعام المقبل توزع على عدة بنود أهمها دعم المشتقات النفطية بقيمة 2700 مليار ليرة ودعم الدقيق التمويني بـ2400 مليار ودعم السكر والرز بـ300 مليار ليرة ومنح 50 مليار ليرة لصندوق دعم الإنتاج الزراعي و50 ملياراً لصندوق المعونة الاجتماعية و30 ملياراً لصندوق الري الحديث وصندوق الجفاف، أي ٥.٢٣٠ مليار ليرة سورية.

وهذا يعتبر رقماً هائلاً في موازنة دولة تعاني من تراجع شديد بالموارد وميزانها التجاري خاسر وميزان مدفوعاتها هزيل ويعاني وإنفاقها الاستثماري معدوم.

هذا الأمر يفرض علينا تحمل الألم من طرفين من استفاد من العجز الحكومي والمجتمعي، وبالتالي أصبحنا نعاني من الحصار بالزاوية الحادة التي تخبطت فيها الآراء ووجهت الانتقادات، وظهرت ثغرات قاتلة فيما تطرحه الحكومة من سياسات تخص التصرف بالوفورات الناتجة عن رفع الدعم مما أشار إلى قصور في إدارة الموارد وفي الرؤية المستقبلية للوضع الاقتصادي الكلي. وسنوضح ذلك.

في كل دول العالم التي اتبعت الدعم وضعت إستراتيجية وسياسة لرفعه على مراحل ولكل مرحلة سياستها في إدارة الوفورات الناتجة عن رفع الدعم. هذه الإستراتيجية وما يلحقها من سياسات يجب أن تكون معلنة وواضحة ومفهومة من كل طبقات المجتمع. وترافق ذلك حوارات ونقاشات خارج الصندوق الحكومي. وهكذا إجراء يمنع الانتقادات ويهيئ المجتمع نفسيا لقبول هذه الإستراتيجية مما يعفي الحكومة من الاعتراضات الاجتماعية على سياستها في إلغاء الدعم. ونعتقد أن البحث في الأسباب والنتائج يحتاج لشفافية مطلقه لذلك نشير إلى أن ما جرى بالواقع هو خطأ إستراتيجي كبير، حيث بدأت خطة تهيئة المجتمع بتاريخ صدور قرار رفع الدعم والمشكلة أن هذا الخطأ الإستراتيجي تبعه تخبط في التبريرات التي أشارت إلى أن القائمين على تنفيذ دراسة رفع الدعم غير مدركين لمتطلبات إستراتيجية رفع الدعم لجهة إقناع المجتمع بضرورته وتوضيح تداعياته في حال التراجع عن تنفيذ مراحله. وما زاد في رفع سقف الانتقادات هو التصريحات التي توضح توجهات الحكومة لإدارة وفورات الدعم وأتت هذه التصريحات متخبطة وتشير إلى انعدام الرؤية وغياب الهدف الإستراتيجي الكلي للدولة. فمنهم من قال: إن الوفورات ستذهب إلى زيادة الرواتب ومنهم من قال: إن الوفورات ستستخدم في سد العجز وإن جزءاً منها يوجه للمستحقين! إن تحليل هذه التصاريح يشير إلى أن الحكومة يستهويها البقاء في الحلقة المفرغة بسبب حصر تفكيرها بحل النتائج والابتعاد عن تحليل الأسباب.

أرى أنه من المناسب أن أطرح مثالاً يوضح للجميع مفصلاً من مفاصل الخطأ المرتكب. الحكومة تشجع المستثمرين السوريين على العودة للاستثمار في سورية واعتبرت ذلك أولوية. نسبة لا بأس بها من هؤلاء المستثمرين يعانون من تعثر في دفع قروض استحصلوا عليها قبل الأزمة حيث قاموا بالمطالبة بتسوية هذه القروض وطرحوا أن يتم الاتفاق على تأجيل دفع مستحقاتها لسنه أو سنتين. وتلبية طلبهم في الحصول على قروض جديدة تمكنهم من ترميم معاملهم والإقلاع بالعمل. أي إنهم سيتحملون ضغوط العجز في سبيل إعادة انطلاق مشاريعهم الصناعية والاستثمارية وتحقيق موارد لسد عجزهم.

منذ أيام وزير الاقتصاد صرح بأن وفورات العجز سنسدد فيها جزءاً من العجز وأن جزءاً آخر يوجه لمستحقيه. هذا يضعنا أمام تساؤل، هل رفع الدعم يعفي الحكومة من اتفاقاتها الاستثمارية وترميم مواردها المالية؟ هل هناك تعريف دقيق لوضع المواطن المستحق للدعم؟ هل تم البحث في الأسباب التي أدت بهذا المواطن ليكون في وضع يستحق به الدعم؟

هذه الأسئلة تدعو إلى مناقشة فكرية عقلانية قبل البت بسياسة توجيه وفورات رفع الدعم.

أولاً المواطن المستحق للدعم هو الذي يحصل على دخل لا يساعده على النهوض بأعباء معيشته وغالباً ما يكون السبب البطالة والركود الاقتصادي؟ المقولة الاقتصادية تقول لا تعطيه السمكة وإنما علمه كيف يصطادها. أي لا تعلمه الاتكالية واجعل منه فرداً فاعلاً في المجتمع.

المعروف في علم الخطط الإستراتيجي أنه يقسم إلى مراحل وكل مرحلة ترسم لها سياسة خاصة لتنفيذها على أن تراعي البيئة وترسم الطريق للوصول إلى تحقيق جزء من الهدف الإستراتيجي الخاص بالمرحلة وضمن جدول زمني واضح. فرفع الدعم يقتضي أن يتم على مراحل ولكل مرحلة سياستها في استخدام الوفورات المتحققة لها.

في المرحلة الأولى التي من المفترض أن يتم تحديد فترة زمنية لها على أقل تقدير إذا ما اقتنع الجانب الحكومي بطروحاتنا. وهنا أقول للفريق الحكومي وأشدد لا تفكروا بالعجز وإنما فكروا بحل أسباب العجز وأسباب وصول المواطن لشريحة المستحق. اسمحوا لي بأن أقترح ما أراه مناسباً لوضعنا في المرحلة الأولى من رفع الدعم.

أولاً: إن نتائج رفع الدعم في المرحلة الأولى تحقق ما يقرب من ألف مليار ليرة سورية. هذه الكتلة النقدية نعتبرها موارد وتكون لها موازنة خاصة بها مستقلة عن موازنة الدولة يتم تقسيم كتلتها النقدية إلى اعتمادات يذهب ٣٠ بالمئة من كتلة الوفورات لسد العجز و٧٠ بالمئة منها تقسم إلى قسمين ٢٠ بالمئة منها لترميم منشآت صناعية عامة ودعمها برأسمال جديد للإقلاع وخلق فرص عمل إضافية؟ و٤٠ بالمئة منها يذهب لتمويل مشاريع جديدة معظمها يعتمد على الصناعات التحويلية والمشاريع الزراعية لأنها الأكثر استخداماً لليد العاملة التي لها دور كبير في البدء بإخراج الاقتصاد من الركود ودفع العجلة الإنتاجية. على أن ترافق ذلك سياسة نقدية للتخفيف من حدة التضخم الذي لا بد من حصوله في هذه المرحلة، ووضع سياسة محكمة لاستثمار أملاك الدولة والمضي في سياسة مكافحة التهرب الضريبي ومحاربة التهريب والفساد. وهناك تبرير لإشارتنا للصناعات التحويلية لا مجال لطرحه الآن.

ثانياً: بالنسبة إلى ٣٠ بالمئة من المبلغ المستخدم لسد العجز هذا يتطلب ضرورة أن تكون هناك أولويات بالنسبة للوزارات التي تعاني من العجز وهي في المقدمة وزارة النفط ثم وزارة الزارعة ثم وزارة التجارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. لذلك توجه نسبة ٣٠ بالمئة من الوفورات إلى وزارة النفط لدعمها في توفير المشتقات النفطية والتي هي حاجة أساسية لانطلاق المشاريع الاستثمارية.

أعتقد أن اعتماد سياسة للمطروح أعلاه يحقق خلق فرص عمل تستهدف الشريحة الضعيفة والمستحقة للدعم، وتدفع بعجلة الاقتصاد باتجاه الإنتاج، وترفع الطلب في السوق وتخرج الاقتصاد من حالة الركود ويصبح التسويق والتشجيع على الاستثمار مجدياً ويلزم ذلك سنة.

المرحلة الثانية تبدأ بعد عام من الأولى يتم منها رفع الدعم عن شريحة ثانية وبنفس الوقت يرفع الدعم عن جزء من الشريحة التي كانت في المرحلة الأولى مستحقة للدعم من الذين استفادوا من فرص العمل وبات لديهم دخل يمكنهم من سد حاجاتهم الاجتماعية. بهذه الحالة سترتفع وفورات رفع الدعم التي يتم تخصيص ٣٠ بالمئة منها لوزارة النفط و١٠ بالمئة لوزارة الزراعة و٦٠ بالمئة منها تقسم إلى قسمين ٢٠ بالمئة منها زيادة للرواتب والأجور و٤٠ بالمئة منها لمشاريع استثمارية. مع الاستمرار بالسياسة النقدية لتخفيف التضخم والاستمرار في تنفيذ السياسة المالية.

المرحلة الثالثة يبدأ تنفيذها بعد ستة أشهر من الثانية يرفع فيها الدعم عن الشريحة الثالثة ومن ضمنها الشريحة المستحقة المستفيدة من فرص العمل، حيث ستحقق وفورات أكثر من المرحلة الثانية ناتجة عن الاستثمار إضافة إلى ارتفاع موارد الخزينة وسرعة عجلة الإنتاج والخروج من الركود، تقسم مواردها ٣٠ بالمئة لوزارة النفط و١٠ بالمئة لوزارة الزراعة و١٠ بالمئة لوزارة التجارة الداخلية، و٥٠ بالمئة لمشاريع استثمارية تشاركية مع الدخول بمرحلة التشابكات مثل تشبيك المسرحين من الجيش بهذه المشاريع وتأمين عمل لهم عن طريق تمليكهم أسهماً بهذه المشاريع تدفع قيمتها من راتبهم المخصص لمدة عام لهم فهؤلاء المسرحين بالواقع يشكلون ضغط على نسبة البطالة وهناك تشابكات أخرى تتعلق بالمصارف والمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر. يضاف إلى ذلك استمرار وزارة المالية بزيادة مواردها لسد حاجة الوزارات من النفقات مع استمرار السياسة النقدية في التخفيف من التضخم.

المرحلة الرابعة تنفيذها يبدأ بعد ستة أشهر من الثالثة حيث يتم فيها رفع الدعم بالكامل وتقسم موارده إلى ٣٠ بالمئة تذهب لزيادة الأجور والرواتب ودعم إنتاج القطاع الخاص و٧٠ بالمئة يتم فيها ترصيد عجز وزارة النفط ووزارة الزراعة والباقي يوجه لوزارة التجارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي سينخفض إنفاقها نتيجة خلق فرص العمل.

أعتقد أن إدارة وفورات الدعم يلزمها إنشاء هيئة محدودة المدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، هذه الهيئة إدارتها مشتركة خاص وعام مهمتها إدارة موازنة وفورات الدعم. وتنتهي صلاحيتها بغنتهاء ظهور العجز في الموازنة العامة للدولة. ندعوكم لإطلاق حوار حول ما تم طرحه على أن يترافق الحوار بإرادة الخروج من عنق الزجاجة، وأعتقد أن طرح كهذا يرضي الجميع فليس هناك من يعترض على انتشال الاقتصاد من مأزقه. والله الموفق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن