مقتل القرشي بين الحقيقة والوهم: لماذا يلجأ الأميركي إلى سيناريوهات محروقة؟!
| فراس عزيز ديب
قُتِلَ الخليفة، ليست المرة الأولى التي يأتي تاريخنا على هذهِ العبارة، وإن كانوا جميعهم قد قُتلوا، إلا أن خليفة عن خليفة يفرِق، هكذا أعلنت الولايات المتحدة الأميركية مقتلَ «أبي ابراهيم القرشي» أميرَ داعش والخليفة المفترض لـ«أبي بكرٍ البغدادي».
بعيداً عن دقةِ الرواية الأميركية من عدمها فقد علَّقَ مواطن فرنسي على هذا الحدث بالقول: إن الرجل ورغمَ أنه مُطارَد من كلِّ أجهزة الاستخبارات العالمية، لكنه لم ينس ما نصَّ عليهِ الشرع وتزوج بأربع! في الحقيقة تبدو هذهِ المقاربة ملفتة للنظر، هل أن قوة الإيمان جعلتهُ يتناسى كل الأخطار المحدقة بهِ حتى من قبل جيرانه الأقربون في ريف إدلب، إخوته في العقيدة الإجرامية وأعداؤه في البيعة، «جبهة النصرة» الممَثَّلة بالإرهابي «أبي محمد الجولاني»، أم أن ما يعيشه من هدوء وأمان بضمانة النظام التركي جعلته يتفرغ لإقامة شرع اللـه مثنى وثلاث ورباع؟!
بعض النكت قد تفتح تساؤلاتٍ أعمقَ بكثيرٍ من مضمونِها، هي أشبهَ بالكوميديا السوداء لكن بإخراجٍ أميركي يجعلنا نبتسم ونعرف بأن كل ما يجري هو مسرحية مكررة، لكن أعطني شيئاً في هذا الشرقِ البائس أتقناه أكثر من تكرارِ المشاهدة والتأكيد بأن هناكَ مسرحية، أو مؤامرة! من دون أن نأخذ يوماً دور المخرج؟! على هذا الأساس يصبح السؤال الجوهري على النحو التالي: هل الحدث أُعطيَ أكبر من حجمه أم أن الولايات المتحدة فعلياً اضطرت لهذا السيناريو؟
للوصول إلى النتيجة لابد من الإضاءة على النقاط التالية:
أولاً: لا يمكن القول إن الولايات المتحدة نفذت هذا السيناريو لمجردِ تنفيذه، تحديداً أن بعض الثغرات في هذا السيناريو لا تصب في مصلحةِ الولايات المتحدة ولا حتى حلفائِها في النظام التركي أو التنظيمات الإرهابية التي تسيطر على إدلب، فمقتل القرشي أثبتَ بما لا يدع مجالاً للشك أن التعايش بين النصرة وداعش قائم على الحدود التركية، ولو ذهبنا أبعدَ من ذلك فإن التركي نفسه الذي يتحدث مع أصدقائه الروس عن ضمانات في الشمال السوري باتَ مكشوفاً أكثر لجهةِ العلاقة بداعش، بالسياق ذاته تبدو فكرة التخلص من الجثة بروايةٍ منطقية أسلوب أميركي تلجأ إليه للهروب من تقديم البيانات الضرورية، لكن في الحقيقة هو ليس أسلوب أميركي فحسب، بل هو عملياً أسلوب تلجأ إليه كل الدول التي تدَّعي محاربتها للإرهاب المتأسلم من جهة، وتدعمه من جهة أخرى وإن اختلف التكتيك، فمثلاً في فرنسا كان هناك تساؤلات كثيرة عن قيام الشرطة الفرنسية بتصفية بعض الإرهابيين من دون اللجوء إلى محاولةِ اصطيادهم عبر الضربات التي تحد من حركتهم، من دون أن تقتلهم لكونهم يمثلون كنزَ معلوماتٍ افتراضياً، كحالةِ الإرهابي محمد مرَاح مثلاً الذي قُتل بأكثر من عشرين رصاصة اخترقت جسده، لماذا يجب أن يموت الإرهابي وتموت معهُ أسراره؟
ثانياً: هناك من يذهب باتجاهِ أن عملية القتل تلك وما تبعها من تسويقٍ إعلامي ضخم تولاه الرئيس جو بايدن شخصيَّاً، إستراتيجية أميركية هدفت إلى إعادة الاستثمار بملف التنظيم الإرهابي لضمان بقاء قوات الاحتلال الأميركي على الأراضي السورية، وما يعنيهِ هذا البقاء من سرقةٍ لخيرات الجزيرة العربية السورية وضمان الضغط على الدولة السورية في الملف الاقتصادي، وبصراحة يبدو هذا التحليل أقرب لإبرةِ تخدير مُكررة، وهل تحتاج الولايات المتحدة عملياً فرضية البحث عن الذرائِع؟
أخلاقياً من يبحث عن تبريرِ انتهاكٍ ما هو الذي يخاف اللوم أو يخشى اهتزاز صورته التي يقدمها للعالم أجمع كراعٍ للديمقراطية ومدافع عن الشعوب، وأين السياسة الأميركية من ذلك؟ إذا كان جزء لا يُستهان بهِ من الأميركيين أنفسهم ينتقدون سياسة بلدهم السوداء المرتبطة بطموحات المؤسسة العسكرية التي دمرت ما دمرته من بلدانٍ وقتلت ما قتلته من شعوب!
أما قانونياً، فإن من يبحث عن الذرائع والتبريرات هو الذي يخشى عقاباً لما يرتكب من جرائم، وأين السياسة الأميركية من ذلك؟ إذا كانت الولايات المتحدة الرسمية تتعاطى وكأنها فوق القانون، أساساً لمجردِ ربط الولايات المتحدة بأفكار كهذه فهو أشبه بتبييضٍ مجاني لصفحتها، على هذا الأساس يبدو الحدث بعيداً عن تسويغٍ لبقاء الاحتلال الأميركي في الشرق السوري تحديداً أنها باتت تتصرف في الشرق السوري وكأنه «الولاية الثانية والخمسون».
ثالثاً: في إحدى خطاباتهِ قال الرئيس بشار الأسد، بما معناه، بأن الإرهاب فكر قبل أن يكونَ أشخاصاً، لن ينتهي بقتل الأشخاص بل بمحاربةِ هذا الفكر، وهذه العبارة يومها فتحت الكثير من النقاشات في الأوساط الصحفية الأوروبية التي تحترم نفسها، تحديداً بين الباحثين بما يتعلق بشؤون محاربةِ الإرهاب حول الجدية في هذهِ الحرب، لأنك ببساطة لا يمكن أن تدخل حرباً قبل أن تحدِّد أهدافها، فهل أن قتلَ إرهابيٍّ هنا أو هناك هو الهدف؟ ربما قلة قليلة منهم من ذهبت بعيداً بفهمِ ما رمى إليه الرئيس الأسد يومها وبمعنى آخر: الحرب على الفكر هي حرب صادقة وتجفيف للمستنقنع، في حين الحرب على الإرهابيين هي قتل للبعوض للاستثمار بالمستنقع، وانطلاقاً من هذه المقاربة قد يبدو هذا الحدث بسياق رغبة أميركية بإعادة إنتاج هذا التنظيم وصولاً لأحد احتمالين:
الاحتمال الأول ينطلق من إمكانية تصفية الرؤوس الحامية في التنظيم وصولاً لقيادات أقرب لفكرة الحوار والتواصل، هو نوع من «طلبنة داعش»، أي اتباع السياق ذاته الذي حوَّلَ حركة طالبان إلى وريثٍ شرعي للقوات الأميركية في أفغانستان.
الاحتمال الثاني: إحداث نوع من توحيد بالإمكانات بين جبهة النصرة من جهة وداعش من جهة ثانية بفصيلٍ واحد يبدو أقرب للمتأسلم «الموديرن»، والهدف حكماً أبعد من مجرد الشمال السوري أو حتى الجغرافيا السورية.
على هذا الأساس، يبدو الحدث الأميركي أُعطي أكبر من حجمهِ وربما على بعض الرؤوس الحامية الكف عن ربط كل إجرام أميركي بصراع نفوذ هنا أو هناك، تبادلَ أوراقٍ هنا أو سحبَ أوراقٍ هناك والنظر بموضوعية لما يجري من زاوية أن الأميركي لا يزال يفرض السيناريو الذي يشاء، ربما قد يكون استعجل نوعاً ما بهذا السيناريو لأن الوضع الداخلي الأميركي بحالةِ ترقبٍ لنتائج انتخابات التجديد النصفي، تلك الانتخابات التي ستكون حاسمة ليست كما يهرطق البعض لجهة أنها قد تكون شرارة حرب أهلية أميركية، بل للتأكيد على انتهاء الترامبية السياسية أم لا، هي المعركة الأهم التي يسعى العقل الأميركي للانتصار بها، وسيحاول حتى النهاية الاستثمار بكل ما يساعده بتحقيق النصر بها، مع التأكيد بأن أي خرقٍ لانتصار كهذا سيعني حكماً بأن كل التفاهمات بما فيها الاتفاق النووي مع إيران ستصبح في مهبِّ الريح.