ثقافة وفن

«كارمينا بورانا»…. تناشد قوة القدر والحظ

| إدريس مراد

رسم كارل أورف نصه الموسيقي من مخطوطة يعود عمرها إلى القرن الثالث عشر تحتوي على أغان ومسرحيات مكتوبة باللغة اللاتينية والألمانية في العصور الوسطى، والتي تم اكتشافها في عام 1803 في أحد أديرة بافاريا. تقدم النصوص التي أطلق عليها عالم اللغة الألماني «يوهان أندرياس شميلر» اسم كارمينا بورانا، وتجسد رؤية متنوعة للحياة في العصور الوسطى، الاجتماعية والدينية، وعن الحياة والموت، وجاءت بعض النصوص بصحبة تدوين موسيقي قديم مما لايشك بأنها كانت معدة للغناء، إلا أن هذا التدوين ظل غير مفكك، مما ترك لأورف حرية تخيّل إعداداته الموسيقية، اختار أورف أربعة وعشرين نصاً من أصل مايقارب مئتي نص، رتبها في مقدمة وخاتمة وثلاثة أجزاء متساوية الطول تقريبًا (بداية الربيع، في الحانة، محكمة الحب) وحاول فيها إعطاء الطابع البدائي للموسيقا لاسيما باعتماده على الآلات الإيقاعية، ومن أشهر الأغاني في كارمينا بورانا هي التي سميت (الحظ) وعملت كمقدمة وخاتمة للعمل وتؤطر جمالية الحركات الثلاث الرئيسية تصل فيها الأصوات الغنائية إلى ذروتها تناشد قوة الحظ والقدر وتقدم الصورة القديمة لعجلة الحظ التي تتعامل مع الانتصار والكارثة بشكل عفوي، واعتبرت من بين أروع العبارات في جميع أدبيات الكورال.

موسيقياً حاول أورف في هذا العمل التحرر من النظام التونالي التقليدي الذي توطدت أسسه منذ عام 1500م، وهو النظام الذي يعتمد على السلالم الكبيرة والصغيرة واتخذ الدوديكافونية التي انتشرت في القرن العشرين حيث أهمية الإيقاع إذ عمل على تطويعه وجعله مرناً، واسع الإمكانيات والخروج به من قيود الوحدة الرتيبة للموازين الموسيقية عن طريق مزجه بعناصر إيقاعية أخرى وتالياً أصبح الإيقاع السيد المتحكم في الموسيقا ومن ثم يليه اللحن والهارمونية وحينها اعتبرت معالجة جديدة للإيقاع عند أورف وغيره من المؤلفين الموسيقيين وطبعاً لم يأت هذا من فراغ بل نتيجة تراكمات التطور الموسيقي في العصور ما قبل القرن العشرين فضلاً عن تأثير موسيقا الجاز مثل استخدام طبقتين أو أكثر من الإيقاعات المختلفة تعزف معاً في وقت واحد وأعطى للإيقاع حيوية ونشاطاً وأهمية بالغة وعالج إيقاعاته معالجة بوليفونية معقدة وكأنها خلية لحنية.

تميز أسلوب كارل أورف بميله إلى الأغاني الشعبية وإلى بعض أغاني القرن التاسع عشر وإلى أغلب العناصر الأساسية لأسلوب عصر الباروك وعصر النهضة فضلاً عن موسيقا العصور الوسطى وبذلك يتعارض أسلوبه البسيط مع تشعب أساليب العمالقة الألمان فاغنر وشتراوس وشونيرغ المعاصر له. لقد ارتقى كارل أورف في كارمينا بورانا بالإيقاع إلى أعلى المراتب في تأليفه الموسيقي فهو الوسيط الأمثل بين الغريزة والفكر وجعل اللحن مساعداً للإيقاع مخالفاً في ذلك النهج الفاغنري الذي يجعله مساعداً لهارمونيته.

كتب أورف الأدوار الغنائية موزعة للإنشاد في نغم واحد وعزز مجموعة آلات الإيقاع بالأوركسترا على نهج بارتوك والتطور الموسيقي الحديث وجعلها للمجموعتين الوترية وآلات النفخ.

بين الأعمال الكبيرة للأوركسترا والكورال والسيمفونيات والتجارب في الموسيقا القومية في أوروبا الشرقية وألمانيا والتي غزت تلك الحقبة ، رسخت كارمينا بورانا نفسها في التاريخ الموسيقي منذ أول عرض لها في فرانكفورت عام 1937، وبعد ما يقارب المئة عام ما زالت تعزف في قاعات الحفلات الموسيقية حول العالم.

كارل أورف ملحن وموسيقي ألماني عاش بين عامي (1895- 1982) في ميونيخ واعتبر من أشهر ملحني القرن العشرين وعمل في تعليم الموسيقا الإيقاعية وأسس مركزاً تعليمياً للأطفال وكتب قطعاً موسيقية تعليمية بهذا الشأن، درس أورف في الكلية الموسيقية في ميونيخ كما لعب دوراً مهماً في أوبرا مانهايم ومشتات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن