قضايا وآراء

الأزمات وإعادة ضبط الرأسمالية

| الدكتور قحطان السيوفي

حان الوقت لإعادة ضبط الرأسمالية في عالم يعيش لحظة تاريخية ممتلئة بالتحديات والأزمات؛ الصحة والمناخ والغذاء والحروب والإرهاب واحتلال الأراضي بالقوة.

العالم بحاجة لمراجعة قواعد التجارة والضرائب والمنافسة التي تعكس عقوداً من زمن النفوذ النيوليبرالي.

يتعين إعادة النظر فيما يعنيه مصطلح «رأس المال» بجوانبه الاقتصادية والمالية، والبيئية، والاجتماعية، والإنسانية.

تسببت جائحة كوفيد-19 في إشعال أزمة صحية واقتصادية على نطاق غير مسبوق وهي أسوأ أزمات الصحة العامة في التاريخ الحديث، وسيكون لها عواقب وخيمة وطويلة الأمد على النمو الاقتصادي والدين العام والعمالة ورفاهية الإنسان.

ووفقاً لصحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، وصلت الديون الحكومية العالمية إلى أعلى مستوياتها وارتفعت معدلات البطالة بشكل هائل في عديد من الدول في ظل أزمة كورونا، وسيكون من المفيد إجراء عملية إعادة ضبط كبرى للاقتصادات والسياسات، وإعادة تقييم “القواعد المقدسة” التي أرستها الرأسمالية قبل الجائحة.

جوانب أخرى في النظام الاقتصادي العالمي تحتاج إلى إعادة التقييم أبرزها الإيديولوجية النيوليبرالية.

لقد تسببت أصولية السوق الحرة في تآكل حقوق العمال والأمن الاقتصادي، وكان للوباء جانب إيجابي هو إثبات مدى السرعة لإجراء تغييرات جذرية على أنماط حياة الناس.

الأزمة أجبرت الشركات والأفراد على التخلي عن ممارسات لطالما ادعى البعض أنها ضرورية، كالسفر الجوي المتكرر والعمل من المكتب لتحقيق أفضل النتائج، يجب على العالم مضافرة جهوده والعمل المشترك والسريع لتجديد كل ما يتعلق بالمجتمعات والاقتصادات، بدءاً من الجوانب التعليمية وصولاً إلى العقود الاجتماعية وظروف العمل.

يجب على الدول كافة المشاركة، ويجب تحويل جميع الصناعات من النفط والغاز إلى التكنولوجيا.

سيتطلب ذلك حكومات أكثر قوة وفعالية، ومشاركة القطاع الخاص، وأجندة الأعمال تتضمن إعادة الضبط لثلاثة عوامل رئيسة: الأول، توجيه السوق نحو نتائج أكثر عدالة، وعلى الحكومات التنسيق، في مجال السياسات الضريبية والتنظيمية والمالية، وفرض قوانين جديدة تحكم الملكية الفكرية والتجارة والمنافسة.

العامل الثاني يتضمن تقديم الاستثمارات العامة واسعة النطاق التي تنفذها الحكومات لإنشاء نظام جديد أكثر مرونة وإنصافاً، وبنية تحتية حضرية خضراء وإيجاد محفزات للصناعات. ويتمثل العامل الثالث في تسخير ابتكارات الثورة الصناعية الرابعة لدعم المصلحة العامة لإعادة النظر في الرأسمالية، ويجب أن نعيد النظر في الدور الذي تلعبه الشركات، ويجب تضافر جهود الشركات والجامعات وغيرها، لتطوير التشخيصات والعلاجات واللقاحات، وتقديم الطب عن بعد في كل القطاعات، وأهمية التعاون بين القطاعين العام والخاص.

يقول أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة أكسفورد بول كوليير: إن الفيروس ألقى الضوء على أوجه القصور في النظم الاقتصادية والاجتماعية اليوم.

كما سبق أن دعا المنتدى الاقتصادي العالمي إلى «إعادة ضبط كبيرة» للرأسمالية.

وفيما يلي 3 طرق يمكن أن يغير بها الوباء الرأسمالية عبر شبكة أمان اجتماعي جديدة:

1- كشف الوباء عن التشققات في شبكة الأمان الاجتماعي، ما قد يدفع الدولة لتصبح أكثر تفهماً لاحتياجات العمال، وفقد الملايين من الأشخاص وظائفهم، وإعانات البطالة لا تكفي، كما أنه مع استمرار الوباء، أصبح الجوع مشكلة متزايدة.

2- الأتمتة تتحدى قطاع التصنيع، والعولمة تسير جنباً إلى جنب مع الرأسمالية، في رأسمالية اليوم، غالباً ما يعتبر المال أكثر أهمية من العمال، والروبوتات تُوفر الدولارات، وقال رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في وقت سابق: قدم الوباء مثالاً واقعياً على أن الروبوتات لا تمرض، على حين أن البشر يمرضون.

3- ديون أكثر من أي وقت مضى، فلا تتعلق الرأسمالية فقط بكيفية معاملة الدولة لشعبها وعمالها، بل تتعلق أيضاً بكيفية تعاملها مع أموالها، وقد رفع فيروس كورونا الإنفاق الحكومي بشكل لم يسبق له مثيل، ما تسبب بارتفاع العجز.

وتقول أستاذة القانون في جامعة هارفارد، كريستين ديسان: إن الدين قد يكون أحد أبرز خصائص الرأسمالية اليوم.

وفي عالم ما بعد الجائحة، سيتعين على صانعي السياسات إما قبول العيش مع أعباء ديون هائلة أو معالجة إصلاح شامل للنظام القائم.

وتتفاقم أزمات المناخ والأزمات الاجتماعية، وتتزايد حدة الإحباطات الناجمة عن العلل الاجتماعية واتساع فجوة التفاوت الاجتماعي، وخصوصاً أن الثروة المجتمعة للأثرياء وحيتان الأزمات ازدادت، وإذا ما تركت هذه الأزمات من دون معالجة، فإنها مع فيروس كوفيد – 19 ستتعمق وتترك العالم أقل استدامة ومساواة وأكثر هشاشة.

يمكن أن تمثل الأزمات، فرصة نادرة لكن محدودة للتأمل في عالمنا وإعادة تصوره وضبطه لصناعة مستقبل أكثر صحة وإنصافاً، واليوم يتعين على العالم أن يواصل تركيزه على قضايا من شأنها تحديد هيئة عصر ما بعد الجائحة: «الثورة الصناعية الرابعة»، والتحول الرقمي في عدد لا حصر له من الأنشطة الاقتصادية.

الرأسمالية بحاجة لإصلاح والتكنولوجيا الحديثة أعطتنا الأدوات لمواجهة الأزمات، وإن الأزمات وإعادة الضبط للرأسمالية ينبغي النظر إليها على اعتبارها خطوة نحو عالم أكثر مرونة وتماسكاً واستدامة، ويجب استبدال بعض ركائز النظام العالمي، وإصلاح بعضها الآخر، لتحقيق التقدم المشترك والازدهار والصحة في عالم أفضل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن