قضايا وآراء

غواية عمانية في فتح الطرقات المغلقة

| عبد المنعم علي عيسى

من يتتبع الدبلوماسية العمانية على امتداد نصف قرن من الزمن فسيلحظ أن عمل تلك الدبلوماسية هي أشبه بالجرافات التي تعمل على فتح الطرقات المغلقة التي تراكم عليها الكثير ما أخرجها من الخدمة، أو هي تشبه، أحياناً، غواية من يحمل معه جسورا عائمة بغرض وصل ضفاف على أنهر ليس فيها جسور قائمة، أو أن تلك التي أقيمت عليها في السابق قد تهدمت لسبب أو لآخر، وكلا الفعلين يتطلبان صبراً وأناة لا بديل منهما لإنجاز أي من المهمتين سابقتي الذكر، والمؤكد هو أن دبلوماسية مسقط تمتلك من تينك الصفتين الشيء الكثير ما يبقي مشروعية الأعمال التي تمتهنها قائمة، ومن يرقب هذه الأخيرة فسيلحظ أيضاً أن التعثر مرة لا يكون إلا مدعاة لتكرار التجربة بآليات مختلفة وإن كانت تعتد بسابقاتها التي تعثرت، والمراوحة التي تفرضها المناخات حيناً، لا تشكل إلا حافزا للتغلب عليها عبر منظومة «التكييف» التي تقوم على إمكان التحكم بتلك المناخات داخل مساحات محددة، ومن ثم العمل على توسعة تلك المساحات، بانتظار أن تجيء المناخات المعتدلة التي تشكل عادة فرصة للاستغناء عن منظومة التكييف سابقة الذكر.

بعد يوم واحد، وللتوقيت اعتباره الذي يجب أن يظل في الذاكرة، من الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب الذي انعقد في العاصمة الكويتية، شدّ وزير الخارجية العماني بدر بن حمد البوسعيدي الرحال إلى دمشق على رأس وفد وزاري متعدد المهام، كما توحي تركيبته، وفي خلالها التقى الرئيس بشار الأسد، وأجرى محادثات مطولة مع نظيره وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد، والزيارة المفاجئة في توقيتها، وليس في حدوثها، قياساً لحقيقة أن طريق دمشق مسقط لم ينقطع على امتداد السنوات العشر من عمر الأزمة السورية كما حصل مع دول الخليج العربي الخمس الباقيات التي تنضوي عمان معها في منظومة «مجلس التعاون الخليجي» المتعددة الأهداف والتي كانت أشبه بمحاولة لإنضاج نظام أمني خليجي خاص، وإن كانت المحاولة في تحولاتها الأخيرة قد شهدت، وخصوصاً ما بعد سقوط بغداد على يد الأميركيين نيسان 2003، تحورات توحي بسعي غرف صناعة القرار الخليجي إلى جر مركز الثقل العربي من مواطنه التقليدية والتاريخية ليحط رحاله في شبه جزيرة العرب، وما أدى إلى تضعضع المحاولة، أو خسارتها لفرصة التمكين، هو التناحر الناشئ بين مركزي الرياض والدوحة، حيث التناحر هنا إضافة إلى كونه يمثل نتاجاً طبيعياً لتضارب المشروعين اللذين تتبناهما كل واحدة منهما على حدة، فهو يمثل أيضاً نتاجاً طبيعياً لحقيقة ظهرت منذ مطلع الألفية الثالثة، ومفادها نمو مراكز ثقل جديدة في الخليج، بفعل تراكم رأس المال من جهة، وبفعل توسعة مروحة العلاقات الخارجية لتلك المراكز من جهة أخرى، حيث باتت هذه الأخيرة ترسم لها أدواراً خارج المظلة السعودية التي كانت، حتى وقت ليس ببعيد، تمارس فعل الاحتواء بشتى صنوفه تجاه باقي الإمارات في الخليج، حتى ليصح مع تلك الحالة القول بأن الرياض كانت تمثل فعلياً ناطقاً رسمياً باسم هذه الأخيرة التي لم يكن دورها يتعدى رفع الأيدي، إشعاراً بالمصادقة على موافقة، أو رفض، الرياض لأي من القرارات أو المشاريع سواء أكانت تختص بالشأن الإقليمي أم الدولي.

بشكل ما يمكن القول إن الدور الذي ابتنته مسقط لنفسها كان خارج تلك المظلة، أو بمعنى أدق لم يكن يرفض الاحتماء بظلها إذا ما كانت الرؤية، وكذا جعبة المصالح، تقتضي القيام بذلك الفعل، لكنه يفضل وضعية «المستجير من الرمضاء بالنار» إذا ما كانت التبعات المترتبة على فعل الاحتماء خارج إطار الرؤية جنباً إلى جنب مع جعبة المصالح التي راحت تراكم في قيعانها سهاماً تبتعد في مراميها عن جغرافيا الخليج لتعبر حدوده على الضفة الأخرى، ثم لتلتف في كثير من الأحيان نحو مراكز ثقل ترى فيها «بيضة قبان» في موازاة ضغوط من شتى الصنوف تتأتى بفعل عوامل الثقل التي تحظى بها شقيقاتها الخليجيات، وهي تدرك بالتأكيد أن تلك العوامل في جلها من النوع الطارئ، أو بمعنى أوضح من النوع المؤقت الذي فرضته ظروف طارئة لا علاقة لها بحقائق الجغرافيا وتراكمات التاريخ.

كانت الكلمات التي انتقاها الوزير العماني بعيد وصوله إلى مطار دمشق واضحة لكن مع بروز لمعالم الحذر فيها، فهو قال إن بلاده «تتطلع من خلال هذه الزيارة إلى عودة اللحمة العربية إلى وضعها الطبيعي»، والعبارة السابقة يصح اعتبارها عنواناً لتلك الزيارة التي تطمح مسقط من خلالها للعب دور «جسر العبور» بين دمشق ومحيطها العربي، وخصوصاً أن المحاولة الجزائرية التي تمثلت بزيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى القاهرة في 25 كانون الثاني المنصرم لم تحقق، كما يبدو، الغايات المرجوة منها لجهة إحداث اختراق وازن في الموقف المصري تجاه عودة «اللحمة العربية»، ولربما كان ذلك عاملاً مشجعاً لمسعى خليجي، جاء برأس حربة عمانية، لحمل راية تلك العودة، ففي نهاية المطاف يمكن القول إن الوزير العماني جاء إلى دمشق وفي جعبته رزمة من الرسائل كان قد خلص إليها اجتماع وزراء الخارجية العرب المنعقد قبيل يوم من تلك الزيارة، والراجح هو أن طريق العودة السوري إلى المحيط العربي سيضيف ثقلاً وازناً لأولئك الذين سيلعبون دور «الدليل» في ذلك الطريق، وكخلاصة فإن مركز الثقل الخليجي يريد لدمشق أن تعود لجامعتها العربية من بوابته وليس من أي بوابة أخرى، حيث للأمر اعتباراته وحساباته في السياسة، وكذا في معادلات موازين القوى القائمة، والمؤكد هو أن زيارة الوزير العماني كانت أشبه بـ«المجس» الذي يــستخدم للمرور على طرقات غير آمنة، فيما التراســيم تعطي انطباعاً مريحاً كانت قد أظهرته سلوكية القائم بالفعل، والسلوكية إياها تبدي روحية نشطة تجاه إزالة ما تبقى من مخاطر على ذلك الطريق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن