أنا امرأة السراب
أبحث عن وطن
في ردهات أجفانك
وفي ثنايا كفيك
في ثغرات الهواء بين شفتيك
بين تلافيف القش
في كنف فؤادك
هكذا تبدو الشاعرة لمى الحسنية في مجموعتها الشعرية (حواءات التفاح) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة الإبداع العربي، في مجموعة تحمل نكهة الأنوثة الشعرية القادرة والمتمردة والمالكة لذاتها وشعرها..
العنوان والإهداء والدلالات
ضمن الأطر النقدية والقرائية سواء كانت القراءة تراثية بلاغية، أم كانت حديثة وفق الثقافة الحديثة، فإن القارئ يقف أول ما يقف عند العنوان الموحي الذي اختارته الشاعرة لتواجه به المتلقي، فبادلت الأدوار بين آدم وحواء مع التفاح، وتحدثت بصيغة الجمع عن حواء المرأة، ولم تشأ أن تقدم جمع غير العاقل على صيغة جمع المؤنث السالم، بل اختارت جمعاً يخرجه من خانة المؤنث لتبقى حواء الأنثى الحقيقية.. أما الإهداء الذي استغرق صفحة واحدة وكاملة، فقد ركزت فيه الشاعرة على المرأة وفكرة الجنوسة، مع ما يهتم النقد الحديث بفكرة الجنوسة والجندر، وخاصة في الحداثة وما بعدها ،فقد أخذت مسألة الجنوسة غايتها، والحقيقة إن الشاعرة برشاقة وشاعرية قدمت إهداء واخزاً ومعبراً ومدافعاً عن المرأة مقابل المجتمع من ناحية، والرجل من ناحية أخرى، ومقابل المجتمع أكثر لأن الرجل خضع لاستثناءين.. وأمام دهشة العنوان والإهداء قد يجد القارئ نفسه أمام شعر يهاجم ويدافع فيبتعد، أو أمام شعر يتحدى فيتقدم، وأزعم أن الشاعرة كان من الأجدر أن تكتفي بواحد من هذين المفتاحين، وأن تؤخر الثاني لموضع آخر، ولو كان في نص، لأنني في النصوص التي احتوتها المجموعة الشعرية وجدت أنني أمام أحاسيس طاغية يطفح الحب منه تعبيراً ودلالة.
عوالم العنوان والفحوى
يكفي القارئ أن يستعرض عناوين النصوص ليكتشف عالماً مدهشاً للمرأة المحبة العاشقة (كنت أحلم أن أصبح ظلك لاشيء يجمعنا- لقمة الحب- يشيح الطرف عنها- نغمات بتول- هل ستبقى- أنا امرأة السراب- العشاق- سراديب القلب) وغيرها من النصوص والعناوين التي جاءت في 108 صفحات من القطع المتوسط، وبين المباشرة والمواربة تختار الشاعرة عناوينها وربما تحتال وتراوغ بحثاً جمالية النص، وتسويغ بنائه على التضاد بين قطبين رجل وامرأة، أو نار ورماد، أو حالة وحالة أخرى، من خلال بناء لغوي هندسي، يتصاعد ليكون نصاً يشبه شاعرته أكثر من أي شيء آخر، غير عابئ بأن يكون هذا النص حسب قواعد النص الشعري العربي المتعارف عليها، ولا يعنيها إلا أن يكون النص مشابهاً للتفاح والحواءات شكلاً ومضموناً، وإلا ستبدأ معركة أخرى في مواجهة القصيدة وقواعدها..! نصوص تعبر عن كاتبتها، وربما تتمدد لتعبر عن امرأة مختلفة تشبهها في البحث عن الكينونة.
شوق يملؤني
حتى آخر رشفة من كأس نبيذ
مترع بالعشق
تعلّق في أقبية الروح السحيقة
عتمة اللقاء المنتظر وفورة الشبق
أكسبته لدغة رحيق الزهور
ورونقاً وردي الظهور
فنحن أمام مفردات (شوق- رشفة- كأس نبيذ- مترع- تعتّق- أقبية (مقابل الخوابي) فورة الشبق- لدغة رحيق) وهذه المفردات تحمل دلالات إيحائية تندرج تحت ما طرحته القراءات الحداثية للجنسانية، بل طرحته في الحديث عن الحب وتعاطيه.. وبذلك تقطع الشاعرة شوطاً بعيداً في دلالة اللفظ والنص، وتقدم فكرة وصورة تتعارض مع العنوان الأساسي، وما تمّ طرحه في الإهداء من رفع لافتة رافضة تتلاشى أمام فورة الشبق والنبيذ المعتق.
رسم وآمال وخيبة
تترسّم الشاعرة بعذوبة وذكاء وحذر خطوَ عشق وامرأة ورجل، لتقدم صورة شفيفة ترغب في التطابق وتخاف منه، تسعى إلى أن تكونه وتتقدم وجلة، ترسم معالم الرفض، وهي غير قادرة على ممارسته، لأن الواقع يفسح المجال للمراوغة بين نقيضين:
أقصى أماني الظلال معانقة أصحابها
كنت أحلم أن أصبح ظلك
ظلاً يتبعك بخفة ملاك حارس
ظلاً منبسطاً على امتداد روحك
يلملم ذيول الخيبة خلفك
فإذا استدرت درءاً
لضوء الشمس
منّيته الصمود أمام برق عينيك
بدل الانكفاء خلفك
لا طمعاً بلقائهما المحال
بل خوفاً من أن يلامسا النور
وهو قابع في العتمة
فينكسر
ولا يعود لك ظل يسندك
لو تتبعنا النص مثالاً، وكل النصوص متقاربة التعاطي، ومتشابهة في مخاطبة المتلقي فإننا نقف أمام أمنية وحلم، ورغبة السكنى في الظل، والخوف من الخيبة، والخشية من عدم الصمود أمام برق العينين.. و.. و..
وهذه الصور التي تنثال على قلم الشاعرة وقلبها، وفي كل مكان من المجموعة
لا أشكر الله كثيراً
لكني أشكره شكراً جزيلاً
على مشيئته بعدم لقياك
وهذا النص فيه ما فيه من هشاشة المحب الذي يشكر عدم اللقاء، لأنه غير قادر على مجابهة المحب، كما في عدم القدرة على مجابهة برق العينين.
للشعر وبعيداً عنه
وللشعر لغته الموصوفة بالشاعرية، ومهما تعالت أصوات بتحويل الشعر إلى حياة، فإن للشعر المكانة الأرفع، وله لغته التي لا يتنازل عنها، وإن خلا من الوزن والقافية، فإنه يبقى مجنحاً بلغته وصوره، وهناك بعض الموضوعات تحمل طرافة، وقد تكون جميلة عند مبدعها والمتلقي، لكنها في عالم الشعر تكون غريبة ولا تحمل الأبعاد الشعرية كما في قصيدة (لقمة الحب) التي تقول فيها
لقمة الحب
تقرمش تحت الأسنان
كما رقائق البطاطا
تتلذذ بها لحظة خروجها من المقلاة
أزعم أن هذا النص ليس من أجواء الشعر، ومن حق الشاعرة أن تثبته وسواه، ومن حق المتلقي ألا يجد فيه تلك الروح الشعرية، فالتمرد على القواعد والأصول الشعرية، وإن وجدت مسوغاً، لكنها لا تصل إلى مرحلة تكون فيها هذه الموضوعات، وبهذا التناول من جوّ الشعر الذي يعبر عن ذواتنا.. الشعر ليس فسحة للشاعر وحده، بل هو رحلة تجمع بين المنشئ والمتلقي هذه المجموعة محاولة من الشاعرة لتقديم نموذج مختلف في أصوله وقواعده وموضوعاته وصلت إلى غايتها في نصوص عديدة، وخرجت عن السيطرة في عدد من النصوص.