شنت الحركة الصهيونية وقوات الاحتلال الإسرائيلية كل أشكال الحروب وارتكبت كل أشكال المذابح والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني طوال قرن تقريباً ولم تكتف بذلك فقط بل أعدت خططاً تهدف إلى منع ضحاياها الفلسطينيين والعرب من وصف هذه الأعمال الوحشية بما تتصف به في سردياتهم وثقافتهم ومروياتهم الشفوية والمسجلة، برغم أن هذه الأعمال وقعت وما تزال تقع أمام أنظار العالم كله منذ النكبة في عام 1948 وحتى الآن.
في سياستها هذه، حددت سلطات الاحتلال عشرات الاصطلاحات والمفردات التي تعدها مخالفات جنائية تستدعي المحاكمة والعقوبة بموجب سنها لقانون «محاسبة المعادين للسامية» الذي فرضته على دول أوروبية كثيرة، ومن أبرز هذه المفردات «استخدام عبارة الاحتلال الإسرائيلي» و«الأراضي المحتلة»، وفرضت أسماءها على تلك الأراضي والمناطق لتهويدها وبخاصة في مدينة القدس، كمرحلة أولى، تتلوها مرحلة فرض هذه المسميات على السرديات الشفوية والمسجلة للفلسطينيين وبقية الأمة العربية والإسلامية فيما بعد.
في مناسبات كثيرة، وجهت سلطات قوات الاحتلال لاعتقال كل طفل يلقي الحجارة على جنود الاحتلال أو المستوطنين حين يقتحمون أراضي الفلسطينيين لطردهم منها واستيطانها، وجعلت محاكم الاحتلال تفرض عقوبة الحبس على هؤلاء الأطفال لسنوات، وتعد إلقاء الحجارة عملية مسلحة فلسطينية، وتطلق عليها «إرهاباً»، بل أن كل فرد أو مجموعة توجه انتقاداً للصهيونية أو للسياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة بشكل خاص تصبح متهمة بما يسمى «معاداة السامية» ومعرضة للمحكمة، ومن آخر هذه المصطلحات التي يجري التحضير لها هو استخدام عبارة «عنف المستوطنين» ضد الفلسطينيين، ففي السادس من شباط الجاري نشر أستاذ التاريخ في إحدى الجامعات الإسرائيلية موشيه دان مقالاً في المجلة اليهودية العالمية «جويش نيوز سينديكيت» بعنوان «استخدام عبارة عنف المستوطنين يعد معاداة للصهيونية»، طلب فيه من سلطات الاحتلال ضمه إلى قائمة المفردات «المعادية للسامية» ولم يوجه ذلك ضد الفلسطينيين وحدهم بل أشار في مقاله إلى أن عدداً من الإسرائيليين يستخدمون هذه العبارة ويجب منعهم من استخدامها لأنها تشير إلى وجود إرهاب يهودي، وبالمقارنة مع سياسة الاستيطان العنصري للبيض في جنوب إفريقيا، لم يشهد تاريخ الصراع بين المستوطنين وأصحاب الأرض من شعب جنوب إفريقيا، مثل هذه الدرجة من القوانين التي تحظر حتى التعبير الواقعي عما يقوم به المستوطنون وسلطاتهم علناً، ويعترفون به، ويبدو من الواضح أن الكيان الإسرائيلي لن يتردد للحظة واحدة في محاولة فرض مفردات واصطلاحات هذه القائمة الفريدة من نوعها، ضد كل الأمة العربية والإسلامية، وهو لو كان واثقاً من فرضها في هذه الظروف دفعة واحدة، لفعل ذلك لكنه يعدها للوقت المناسب.
لقد تمكنت إسرائيل من فرض صيغتها الخاصة بـ«المحرقة» على المجتمع الدولي، لتشطب النكبة التي ما تزال دلائلها وآثارها وضحاياها حية أمام العالم كله، وتقوم بالمستحيل من أجل محوها من كل مصطلحات الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية والعالم كله، وستستمر في سياستها هذه برغم أنها لم تنجح البتة في إقناع الأمة العربية والإسلامية بتطبيع علاقاتها معها، ولكن التشجيع الأميركي والغربي لها بالاستمرار في هذه السياسة، وتعميم مفرداتها واصطلاحاتها، ما زال يدفعها إلى فرض هذه السياسة وبخاصة لأن فرضها سيتطلب تدخلاً غربياً بسياسة الدول التي تعدها واشنطن صديقة أو حليفة لها ويرى عدد من المفكرين الصهيونيين أن نجاح الحركة الصهيونية وإسرائيل في فرض الصيغة الإسرائيلية لـ«المحرقة» على الدول الأوروبية والولايات المتحدة يمكن استخدامه تجربة لكي تفرض الولايات المتحدة على الدول العربية والإسلامية الصيغة التي تعدها إسرائيل لشروط التطبيع مع الدول العربية والإسلامية، وأهمها التخلص من سردية النكبة.
لذلك يقر المحللون الإسرائيليون أن إسرائيل لا قدرة لها لوحدها على فرض ما تريد من سياسات في هذا الموضوع، وهي دائماً بحاجة ولا غنى عنها للدور الأميركي والأوروبي في فرض ما تريد من شروط تنهي كل ما خلفته حرب عام 1948 وما تلاها من حروب من مفردات واصطلاحات ما زال الفلسطينيون والعرب والمسلمون يتسلحون بها ويتمسكون بها لعزل شرعية وجود إسرائيل والتخلص منها.
يستذكر هؤلاء أن الجزائريين برغم تحرير بلادهم من الفرنسيين بعد احتلالها الذي دام 130 سنة، ما زالوا يشددون على تخليد شهدائهم وينددون بما فعله الفرنسيون، ولذلك تخشى سلطات الاحتلال من هذه الثقافة العربية التاريخية وقدرتها على التصدي لكل أشكال الاستعمار ونتائجه الوحشية على الشعوب العربية والإسلامية وبخاصة في الموضوع الفلسطيني الذي تعد فيه مقدسات فلسطين راية للأمتين العربية والإسلامية.