الرعب والعربدة والدماء، الباحثون عن لقمة العيش يعرفون كيف يجدونها، الذئاب الشرهة تلقي إلى الأفواه التي جفّفها الحزن والجوع والحرمان فرائط من المال، وترمي بعضها أيضاً على الحسناوات الفقيرات والصبية المشردة المنتظرة ميادين مدن وبلدات وحواري راقية وبسيطة، يختلط فيها القوت باللعنات والعذاب، من دون التفات لصرخات وتأوّهات البرد والجوع والظلام.
من يضحك بملء فيه، ويعربد ويصخب؟ من المسؤول عن جعل الحياة الجميلة مأساة من الآلام والمرارة والزراية وحتى العار والنقمة وكل ما هو سيّئ؟ من المسؤول عن كل المشرّدين الظاهرين والمختبئين خلف الأبواب، عن الرعاع والدهماء وطريدي المقادير والعاطلين والجائعين في زمن القرن الحادي والعشرين؟ من يتاجر في الحياة ويستثمر في الموت؟ تأملوا فئةً غرقى في المجون والغرائز والملذات ومراكمة المال، وفئةً تحلم بغزوها ليلاً لاستلاب بعض مما هي عليه من أجل سدّ رمقها واقتحام دور العبادة، لتسند رؤوسها الباحثة عن الأمان على أعمدتها.
الليل والنهار يمثلان الذكر والأنثى، التعب والراحة، آدم وليليث، الالتزام والحرية، وهنا اسمحوا لي أن أستذكر روبن هود والشاعر الفرنسي فرانسوا فيللون، اللذين أُطلق عليهما في زمنهما «ولدا اللعنة»، لأنهما اتبعا الطريق نفسه الذي يتبعه أبناء الليل وبناته من الفقراء، من أجل الوصول إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ضمن مدنها المنارة ليلاً، معتبرين في كل ليلة أنهما يسعيان لتحقيق النشوة الأخيرة والوصول إلى الأمل من بعدها، المسكون فيه العفو والغفران.
الليل يبيع كل شيء، المرأة والمال، السياسة والخمر، الدم والمؤامرات، إلى جانب دموع التضرّعات والصلوات، فهو مملوء وزاخر بالخطايا والأسرار والمجهول، تختفي فيه الحرارة من صقيعها حتى نارها المتأججة، وفي الصدور تضطرم مشاعر الندم الحار، تظهر في النهار، ليتم طلب التوبة من الإله، كل المدن لها أسرارها التي تقف عند أسوارها، وبينهما تختلج الدموع بالندم والخطايا والعار، حتى يأتي الليل من جديد، وتبدأ عمليات البيع والشراء أيضاً من جديد، فكلام الليل يدقق فيه فتظهر نتائجه في النهار.
هنا لا أتحدث عن صورة يوم مضى، أو يوم يجيء، إنما هي صورة الأحلام والآمال غير المستقرة، وهي صورة الخوف في مختلف أشكاله وآمال الروح الإنسانية في شتى ألوانها، وفيها أجسّد انفعالات الناس وأحاسيسهم، وفيها يتجسّم العقاب والكره، وفيها تتمثل التوبة والندم، وفيها أقارب الرفاه إلى العدم.
هل يدرك سواد البشر الممتلئون بالخرافات والمظالم والتعب أنّ الحلَّ في العودة إلى إدراك الإنسانية ومعانيها، وأن الحرب الوحيدة التي يجب أن يجتمعوا عليها هي الحرب في سبيل الحرية الإنسانية، هذه الحرب الوحيدة التي يباركها الله، لأنها تكون في الأنوار، الله الذي يشفق على الخاطئين، ويعطف حتى على الشيطان، يكون دائماً في حزب الإنسان، على الرغم من خضوعه للعقاب الحياتي، الذي يقول إنك لن تحسّ بالسعادة من دون أن تشعر بالألم.
المادة والجنس والشهوة أصوات الليل، يدعوكم بها إليه، لتكونوا مقابل المؤمنين الخاشعين تقرّباً للنقاء والوصول إلى الشفافية ووحدة الوجود باحترامهم لمحيطهم من الشهود، فهؤلاء الفارون من كل ما هو متبدّل والخلاص من كل ما هو متحوّل، يشترون من الليل صدقه، ويبيعون النهار حلمه الإنساني العظيم، ورغم كل ما فيه، يبقى لليل سحره وجماله وغموضه من التأملات الحادثة فيه، ومنه أصبح للحضارات معنى، وكتبت أجمل القصائد والمؤلفات، وتمجيده لا يتم إلا في بحر من الدموع على أركان من الأسل.
الليل للأقوياء الأشداء، لا دور بينهم للضعفاء، ويمكن أن يكون الليل في النهار، يتجسد في الخلوات وعند اتخاذ القرارات، لذلك نجد أن الآمال المهزومة تهرب مدحورة إليه، هل من ليل هادئ لا تكدّره الأحلام والخطط؟ ألا تتحرك فيه كل الرغبات واللذات، لتحضر بين عاشقي الحياة والمنكسرين فيها؟ هل فكّرتم بأن الليل يمتلك أقصى مقتضيات الشهوة والرغبات وأرفع مجالات الروح والتواصل مع المكوّن الكلي ومخرجاته؟
يحتمل الليل كل المعاني التي ينسبونها إليه، وإنه لخطأ كبير أن نعزو له معنىً واحداً، أو نحصره في توصيف، وظلماته مهمة للأخيار والأشرار، لأنه يحفظ سرّها ويسترها، وقمره ونجومه تخصُّ الناس، ولا يقدر كائن على وصفه بالمشرقي أو المغربي، فكلٌّ له منه، ولذلك يذهب الجميع إليه، يبيعونه ما يريدون، وهو يشتري بصمت، إلى أن يكون النهار، فيبيع ما يريد منه، والباقي من دونه على الحساب.