صعود يوري جاجارين إلى الفضاء لم يكن فقط تعبيراً عن التنافس المحموم وقتها في مجال التقانة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، ولكنه كان تعبيراً بالأساس عما يمكن أن يفعله الإنسان وينجزه إذا ما تسلح بشيئين اثنين: الإرادة.. ومعها العلم!
كان رائد الفضاء الروسي قد جاب الفضاء يوم ١٢ نيسان ١٩٦١، وكانت مغـامرته هي الأولى من نوعها في العالم، هي الرحلة التي سجلت تفوق موسكو على واشنطن في الفضاء الخارجي.
ولكن يبدو أن العاصمة الأميركية كانت تراقب الرحلة ولسان حالها يقول إن العبرة في السباق بين العاصمتين هي بالخواتيم، وإن السباق بينهما لا تزال فيه جولات أخرى!
والأغرب أن زوجة جاجاريـن عثرت بين أوراقه على خطاب كان قد كتبه إليها يوم صعوده إلى الفضاء، وكان خطاباً أقرب إلى الوصية منه إلى أي شيء آخر، وكان فيما يبدو قد راح يتوقع قبل رحلته أنه لن يعود منها، فإذا به يرجع ويعيش بعدها سبع سنوات! كان يوصيها بشيء واحد هو أن تتلقى طفلتاه اللتان أنجباهما أفضل تعليم ممكن.
كان يدرك تماماً أن التعـليم الجيد هو الذي طار به إلى الفضاء، وكان يريد أن يقدم هذا النوع من التعليم للطفلتين.. وكان يقول في وصيته إن هذا التعـليم هو أصل أي إنجاز على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدول بالتالي.
وهنا من طرف آخر وفي مطالع 2008 ((أي بعـد وصية يوري جاجارين بقرابة نصف قرن)) طلع عـلينا جوزف ستيجليتز – ومجموعـة من زملائه – بتقرير مهم يجيب عن تساؤلات الرئيس الفرنسي حينها نيكولاس ساركوزي – الذي لم يكن مقتنعـاً بجدوى الأرقام – وحدها – في قياس وتفسير تقدم / أو تأخـّر بلد ما.
من المفيد الحديث عـن ستيجليتز فهو أميركي (الآن يقترب من الثمانين من عـمره)؛ قضى دراسته بجامعة ماساتشوستس وكان فيها ما لا يقل عن أربعة من الحاصلين على جائزة نوبل سامويلسون (جائزة نوبل في 1970 (سولو) الحائز جائزة نوبل في 1987)، موديغلياني (جائزة نوبل في 1985)، كينيث أرو (جائزة نوبل 1972) وهناك درس نظرية النمو في الثمانينيات التي انبثقت من مدرسة شيكاغو؛ وحاز لاحقاً نوبل في الاقتصاد بدوره.
فالتعـليم هو أصل أي إنجاز على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدول بالتالي.
نعـود لتقريره الشهير الذي هز العـالم، فالهدف منه وضع قواعـد لقياس مؤشرات اقتصاد بلد ما، وذلك لوضع سياسات رشيدة (أو تعـديلها للوصول إلى الأهداف المبتغـاة). وهنا تكمن النقلة النوعـية التي اعـتمدها ستيجليتز، فقد استبعـد المؤشرات الرقمية (من مثل الدخل القومي GDP وغـيره) والتي كانت بعـض الدول تتبجح بها لعـرض مستوى معـيشة المواطن؛ وطرح بديلاً هو النوعـية/ الجودة.. فماذا يفيدنا إذا قمنا بتصنيع 10 آلاف جرار، وكلها لا تعـمل، أو تخريج 100 ألف من الشباب، وكلهم لا يلبي حاجة سوق العـمل من حيث الاستعـداد والمهارات والتقانات؟
ويبدو أن هذا ما يسعـى إليه د. طارق جلال شوقي وزير التعـليم المصري في إقحام «التابليت» في خطة طموحة لتطوير التعـليم هناك والابتعـاد عـن سياسة البصم – البعـض يصفه بأنه أحد ثلاثة قاموا بتطوير التعـليم مع رفاعـة الطهطاوي وطه حسين (بقي أن نعـلم أنه تلقى دراسته الثانوية في حلب حيث كان والده يدرس في كلية الهندسة بحلب)!.
ننهي حديثنا بسرد ماهية هدية العـرفان بالجميل التي قدمها رحال أميركي متسلق للجبال قبل ربع قرن لأهالي قرية في جنوب شرق آسيا.. فهم الذين أنقذوه من الموت، وكانت هديته جمع تبرعـات سخية لبناء مدرسة حديثة في القرية؛ بقي أن نعـلم.. المدرسة هي للأطفال من الإناث؛ لسد الثغـرة التي تتسع باستبعـاد المرأة/ نصف المجتمع من التعـليم في المجتمعـات المتخلفة.
دعونا نقف قليلاً عند نسبة المتسربين من التعليم (بعد الأزمة)، ومستوى التعليم الحالي، وما يلزمنا من تقانات لإعادة البناء، ونعـود إلى وصية جاجارين بتأمين تعـليم لائق لابنتيه؛ وستيجليتز الذي في تقريره يصر عـلى نوعـية التعـليم، لا مجرد خريجين يضافون لطوابير العـاطلين الباحثين عـن عـمل، ونكاد نقول عـبثاً (فهم لا يتمتعـون بالتقانات المطلوبة في سوق العـمل العـالمية)؛ فعـصرنا للعـامل الماهر لا للعـامل الرخيص!