قضايا وآراء

رقصة الحباري بين داعش وواشنطن

| عبد المنعم علي عيسى

أكثر ما يثير الانتباه منذ الإعلان عن تأسيس «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب» العام 2014 الذي عنت به واشنطن آنذاك محاربة تنظيم «داعش»، هو أن لا شيء في المشهد المرتسم في الجغرافيا التي أرادها التنظيم لإقامة دولته عليها، يحدث صدفة كهذه، وبمعنى آخر فإن مجريات الأحداث تكاد تكون كما الخطوط التي تنبئ عن خيال الرسام في لوحة أراد أن يقول فيها الكثير مما يعتري دواخله، فواشنطن كانت تؤيد قيام دولة إسلامية على جزء من أراضي سورية والعراق، وإن كان التأييد قد انخفض منسوبه منذ خريف العام 2012 الذي شهد اغتيال السفير الأميركي في بنغازي، حيث سيؤدي سقوط حكم الإخوان المسلمين في القاهرة بـ 3 تموز 2013، إلى تغير في المشهد الإقليمي من العيار الثقيل، الأمر الذي استدعى بالضرورة تغيراً في السياسات الأميركية التي راحت منذ ذلك الصيف تتجه نحو التخلي عن المشروع الإسلامي الذي حظي بدعمها منذ وصول الرئيس الأسبق باراك أوباما إلى السلطة في البيت الأبيض مطلع العام 2009، والسيناريو السابق لا يندرج في سياق التحليل، بل في سياق المعلومات، وهو منقول هنا، بتصرف، عن المذكرات التي أصدرتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون عشية مغادرتها منصبها في نهاية الولاية الأولى لأوباما مطلع العام 2014.

لربما نظرت واشنطن لاحقاً إلى إيماءتها المعطاة لـ«قسد» في آذار 2019 والتي قادت إلى إعلان الأخيرة الانتصار النهائي على التنظيم في الباغوز، بأنها كانت متسرعة، بمعنى أدق أن وظيفية «داعش» لم تكن قد انتهت بعد، والمؤكد هو أن واشنطن كانت راضية تماماً عن إستراتيجية «الذئاب المنفردة» التي أطلقها التنظيم بعيد خروج الجغرافيا التي كان ينشط فيها عن حالتي الإمساك والتمكين اللتين اعتبرهما هذا الأخير كمرحلتين أساسيتين في قيام «إمارته» التي أعلن عنها زعيمه السابق أبو بكر البغدادي في الموصل صيف العام 2014، لكن «الرضا» الأميركي عن الإستراتيجية الجديدة كان يقتضي، تبعاً للمتغيرات والمستجدات، الخروج عن هذه الحالة شريطة أن يظل الخروج الجديد تحت السيطرة، أو هو لا يتجاوز الحدود المرسومة له.
لا يمكن فهم ما جرى بين 20 كانون الثاني الماضي، الذي شهد هجوماً لمجموعة صغيرة من مقاتلي التنظيم قالت صحيفة «النبأ» الناطقة باسمه إنها لا تتعدى الـ12 مقاتلاً، على سجن «الصناعة» بحي غويران في مدينة الحسكة، وبين 3 شباط الجاري الذي صدر فيه بيان عن البيت الأبيض أعلن فيه عن عملية أميركية كانت قد نفذت في الليل الفائت، وهي استهدفت زعيم التنظيم «أبي إبراهيم الهاشمي القرشي» في بلدة أطمة بريف إدلب، وانتهى، كما يقول البيان، بمقتله إلى جانب 13 من أفراد عائلته بينهم نساء وأطفال، نقول: لا يمكن فهم ما جرى بين هذين التاريخين الأخيرين إلا في سياق السياسة الأميركية سابقة الذكر التي يمكن اختصارها بـ«خد وعين»، بمعنى أن واشنطن ظلت ما بعد الباغوز 2019، ترى إمكانية الاستثمار في التنظيم، الذي لا بديل منه، لتحقيق بعض المرامي أبرزها الإبقاء على «مشروعية» الوجود العسكري في مناطق شرق الفرات السوري، وخصوصاً بعيد الجدل الذي دار في الداخل الأميركي، والذي لا يزال قائما وإن خبا بريقه في الآونة الأخيرة، حول الوضع القانوني لذلك الوجود، وذاك فعل إذا ما سار على طريقة تدحرج كرة الثلج، من شأنه أن يشكل ضغوطاً على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وقد تجد نفسها مضطرة لإعلان انسحابها المفاجئ من تلك المناطق على طريقة الانسحاب من أفغانستان في آب 2021، ثم أن الاستثمار المرحلي في «الورقة الكردية» يقتضي هو الآخر الإبقاء على «تهديد أمني» يشكله تنظيم داعش الذي ما كان له أن ينفذ الهجوم على سجن «الصناعة» لولا المناخات التي دفعت إليها واشنطن وسبقت تلك العملية، من نوع التخفيف من الرقابة الأمنية وتسهيل عمليات التمويل والتسليح.
سعى الطرفان الأميركي و«قسد» سريعاً للاستثمار في الحدث، ونقصد به الهجوم على سجن الصناعة، لكن كل طرف على طريقته، فالأميركيون، وفق تقرير نشرته وكالة «سبوتنيك» الروسية في 28 كانون الثاني الماضي، قاموا بنقل 750 قيادياً من «داعش» إلى ريف دير الزور الشرقي، وأن حوامة استطلاع أميركية كانت تقوم بدور المرشد لهؤلاء للوصول إلى المكان الذي يجب عليهم الوصول إليه، وتلك إشارة تفضي إلى أن هؤلاء ماضون في ذر النار في المناطق التي خبا أوارها فيها تعزيزاً لوجودهم، وربما لتوسعة مروحة الجغرافيا التي ينشط فيها «التحالف الدولي»، أما «القسديون» فشنوا عمليات دهم وتهجير وتدمير مبانٍ في محيط حي غويران الذي يمثل إحدى القلاع المناهضة للمشروع «القسدي»، وفي مطلق الأحوال يمكن الجزم بأن ما جرى بين 20 كانون الثاني و3 شباط الجاري كان بتدبير ورسم أميركيين، وله دلالات عدة، أبرزها أن «وظيفية داعش» الأميركية لا تزال أمراً وارداً في حسابات واشنطن، وما الحماوة الأخيرة إلا تعبير عن خروج التنظيم عن القولبة التي رسمتها دوائر صنع القرار الأميركي لهذا الأخير، وهي، أي الحماوة سابقة الذكر، ما هي إلا محاولة لتمديد فترة «الوظيفية» لدور «قسد» الذي قال عنها المبعوث الأميركي السابق جيمس جيفري إنها لم تكن تقع، في أي يوم من الأيام، داخل الحسابات الإستراتيجية الأميركية، والمحاولة إياها تهدف للتمديد لتلك الوظيفية لاعتبارات تتعلق باجتماعات «اللجنة الدستورية» التي ترى واشنطن أن دقاتها لا تسير على عقارب ساعتها، الأمر الذي يمكن استشرافه في حديث المبعوث الأممي غير بيدرسون من خلال الكلمة التي ألقاها أمام مجلس الأمن أواخر شهر كانون الثاني المنصرم، ومضمونها كان أشبه بـ«نعي» لجهود التسوية التي وصفها بيدرسون بأنها «عبث بعبث».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن