ثقافة وفن

حطين وتوفيق طارق ومتحفه … من المدرسة الرشيدية إلى باريس لدراسة التصوير الزيتي … مثّل المدرسة الكلاسيكية وصوّر وقائع التاريخ العربي في اللوحة

| سعد القاسم

أشير في حلقة الأسبوع الماضي إلى إجماع كتابات نقاد الفن ومؤرخيه على اعتبار توفيق طارق (1875-1940) رائد الفن التشكيلي السوري، والذي تتعدد الروايات حول مولده وحياته، بين من تذكر أنه ولد في دمشق أو إسطنبول، وبين من تقول إنه ولد في مكان غير معروف. لكن الروايات تكاد تتفق على أنه درس في مطلع حياته بالمدرسة الرشيدية العسكرية بإسطنبول عقب دراسته الإعدادية، ثم أرسلته والدته على نفقتها إلى باريس حيث درس لمدة ست سنوات، التصوير الزيتي وهندسة العمارة وهندسة مسح الأراضي. وقد كلفه جمال باشا بتصميم الشارع الذي كان يحمل اسمه (شارع النصر حالياً). عمل توفيق طارق مستشاراً في وزارة الأوقاف وأشرف على ترميم بعض المآذن القديمة، وخاصة مئذنة (قايتباي) في الجامع الأموي بدمشق.

وفي عهد الانتداب الفرنسي على سورية شغل منصب رئيس المهندسين. كما رأس فرع الرسم في نادي الفنون الجميلة الذي تأسس مطلع عام 1930 في منزل وصفي المالح خلف المستشفى الإيطالي بدمشق، والذي كان يرأسه الصيدلي رفعت عناية.

ممثل تيار الكلاسيكية

في كل الأحوال نستطيع اعتبار توفيق طارق أهم من يمثل الاتجاه الكلاسيكي- الواقعي في الفن التشكيلي السوري، وهو اتجاه عُني بشكل خاص بتصوير وقائع من التاريخ العربي، وخاصة المعارك التاريخية. وقد نما هذا الاتجاه بشكل واضح خلال فترة الانتداب الفرنسي، حيث كان يُعبّر عن أحد أشكال المقاومة الوطنية لهذا الاحتلال. ومن المحتمل أن يكون غياب اللوحات التاريخية عن المجتمع العربي أحد الأسباب التي دفعت بالفنانين الذين زاروا أوروبا للقيام بإنجازها، بعدما شاهدوا اللوحات التاريخية التي تسجل المعارك والأحداث المهمة في المتاحف الأوروبية.‏ ويقال إن توفيق طارق قد حدث ابنته (زهرة مديحة) عن استيائه من اللوحات التي تصور انتصارات الفرنجة على العرب، ما دفعه لإنجاز عدد من اللوحات التي تصور انتصارات العرب، ومنها لوحته الأشهر (معركة حطين) التي تستعيد بأسلوب كلاسيكي، ذكرى معركة مفصلية في تاريخ الكفاح ضد الغزو الاستيطاني الغربي، لها حضورها الاستثنائي في الوجدان الجمعي المحلي.

تسجيل انتصارات للتاريخ

والحقيقة أن الروايات واللوحات الفنية عن انتصارات الفرنج في الشرق العربي لم تستفز العرب وحدهم، إذ يشير بول إم كوب، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة بنسلفانيا، ومؤلف كتاب (السباق من أجل الجنة) إلى أن الغزاة الأوروبيين قد طردوا في نهاية المطاف من شرق البحر الأبيض المتوسط وأحبطت جهودهم لاستعادة السيطرة على الأراضي المقدسة. ومع ذلك، فإن الكثير من اللوحات الغربية التي صورت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحتفل بالانتصارات الزائلة، ومنها على سبيل المثال لوحة الاستيلاء على القدس للفنان الفرنسي إميل سينول التي صورها عام 1847 (أي بعد أكثر من 600 سنة على التحرير النهائي للقدس) وهي موجودة في متحف القلعة بفرساي الفرنسية.

حطين لوحة لم تتم

توفي توفيق طارق قبل أن ينهي لوحة (معركة حطين) فأتمها نيابة عنه تلميذه زهير الصبان، وأصيبت اللوحة بعدة رصاصات حين قصف الفرنسيون مدينة دمشق خلال فترة الانتداب، فقام الفنان رشاد قصيباتي بترميمها. وبمبادرة من الدكتور عفيف البهنسي مطلع عام 1961، وكان يومئذ مديراً للفنون الجميلة، تم إنشاء متحفٍ لتوفيق طارق من قاعة واحدة في مركز الفنون التطبيقية بدمشق (مركز أحمد وليد عزت حالياً) وقام البهنسي، بصفته تلك، بشراء لوحة (معركة حطين) بمبلغ 3500 ليرة، من ابنة الفنان التي قدمت معها أربع لوحات صغيرة كهدية، أضافها إلى ضبط الشراء. كما تم استعارة خمس لوحات كبيرة من مجمع اللغة العربية، إضافة إلى بضع لوحات تملكها مديرية الفنون. وبعد وقت قصير اعترض المفتش (مطيع المرابط) على المتحف بحجة أنه غير نظامي وغير مؤهل، فتم إغلاقه، وأعيدت اللوحات المستعارة إلى مجمع اللغة العربية، وأدخلت باقي اللوحات إلى مستودعات وزارة الثقافة. بينما أهديت لوحة (حطين) إلى الرئيس حافظ الأسد الذي أمر بأن تُعلق في القاعة التي يستقبل بها ضيوفه، فكانت موضع اهتمام واستفسار عدد من السياسيين والإعلاميين ما منحها شهرة واسعة. وهي اليوم في القاعة التي يستقبل بها الرئيس بشار الأسد ضيوفه.

لوحات سرقها العدو

إلى جانب المواضيع التاريخية، صور توفيق طارق بأسلوبه التسجيلي وقائع من الحياة السورية وخاصة رحلة الحج التي شارك فيها بشخصه مع عبد الرحمن باشا اليوسف أمير الحج، مدوناً بفرشاته تفاصيلها ومواقعها، إضافة إلى مشاهد الطبيعة والأبنية التاريخية، وصور الأشخاص. ومن المؤسف أنه لا تتوافر صور، ولا معلومات، عن القسم الأعظم من لوحاته التي توزعت بين سورية ولبنان وفلسطين وفرنسا وإيران، ومنها لوحته (حريق صيدا) التي فازت بجائزة (اليونسكو) وقامت دار نشر ألمانية بطباعة رسومها التمهيدية على بطاقات بريدية، ولم يعرف عنها شيء بعد ذلك. كذلك مجموعة لوحات اقتنتها شقيقة شاه إيران في أثناء الحكم الشاهنشاهي (فروغ الملوك). وكذلك مجموعة ثانية (يقال إن عددها 39 لوحة) يذكر الناقد الراحل عبد العزيز علون أنها كانت في قصر أبي الهدى الصيادي بحيفا إلى أن افتعلت العصابات الصهيونية خلال الثلاثينيات حريقاً بالقصر، لتسرق اللوحات وتبيعها، ويذكر علون أنه شاهد خلال الثمانينيات في معرض بمتحف الشعوب البدائية في باريس مجموعة لوحات لتوفيق طارق سرقتها العصابات الصهيونية واشترى بعضها (شمعون بيريز) وعرضها للبيع بسعر مرتفع.

وخاتمته الباب الصغير

بقي (توفيق طارق) معظم حياته منحازاً بشدة إلى الأسلوب الواقعي – الكلاسيكي، وكان لماحاً وعصبي المزاج وشديد الاعتداد بنفسه، فكان رد فعله حاداً للغاية حين منحت لجنة تحكيم معرض 1926 الجائزة للفنان الانطباعي ميشيل كرشة. ويقال إنه رسم لوحة يسخر فيها من اسم ميشيل كرشة وعلقها في منطقة جسر فكتوريا، ثم غادر دمشق إلى بيروت، حيث عمل لفترة طويلة في (مديرية المساحة والتحسين العقاري في بيروت) وزامل هناك رشاد مصطفى، إلى أن توفي فيها بعدما أصابه مرض عضال، ثم نقل جثمانه إلى دمشق ليدفن بمقبرة (باب الصغير).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن