قضايا وآراء

حول قضية الحرية في الغرب!

| د. بسام أبو عبد الله

لم يفاجئني أبداً قرار محطة «دويتشه فيلله-DW» الألمانية بفصل خمسة إعلاميين عرب من بلاد الشام، سوري وفلسطينيين ولبنانيين، بناء على تعليقات ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، تظهر تأييداً للقضية الفلسطينية، ورفضاً للسياسات العنصرية الإسرائيلية، لأن المحكمة الدستورية الألمانية أعلنت عام 1994 أن أي محاولة لإنكار حدوث الهولوكست لا تتمتع بحماية حق حرية التعبير، وتعرض صاحبها للسجن خمس سنوات، والحقيقة أن قضية معاداة السامية مجرد شماعة لمنع انتقاد السياسة العنصرية الاستيطانية في فلسطين، والأراضي العربية المحتلة، وهذه مسألة كُتب عنها الكثير، لكن الألمان بالذات يريدون غسل ذنوب قتل اليهود، إن كانت الرواية صحيحة، على حساب دماء أبناء المنطقة، ويتناسى الألمان مقتل 25 مليون مواطن سوفييتي في الحرب ضد النازية، والسكوت عن الجرائم والمجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين والعراقيين، تحت عنوان «معاداة السامية» وكي نناقش جوهر المسألة فإن محطة «دويتشه فيلله» الحكومية الألمانية التي تقدم برامج عديدة، ومنها برنامج «جعفر توك» للإعلامي اللبناني جعفر عبد الكريم، الذي صرعنا في الحديث عن الحريات لدى الشباب وقضايا المرأة والديكتاتورية والأقليات والأكثريات والمثلية الجنسية وغيرها من القضايا، قد تحول برنامجه بعد هذا القرار إلى برنامج سخيف تافه لا قيمة له، خاصة عندما يُنظر علينا بقضايا الحرية، ويؤستذ على الشباب في العديد من الملفات، ويقود حملة تبشيرية تعكس ما يريده صناع القرار الحقيقيون في ألمانيا.

هنا أرى أن الأمر لا يتعلق بألمانيا فقط، إنما ما يسمى «أم الديمقراطية» الولايات المتحدة، فمنعت أفلاماً وثائقية للصحفي البريطاني روبرت فيسك تحت عنوان «جذور غضب المسلمين» لأنها أثارت غضب اللوبي الصهيوني الذي هدد شبكات التلفزة التي ستعرض الأفلام بسحب الإعلانات ذات المردود المادي، بالرغم من أن فيسك الذي منعت أفلامه حصل على جائزة الصحافة البريطانية عام 1995، لكن ذلك لم يشفع له أبداً، وحتى البروفسور الأميركي، اليهودي الديانة، نعوم تشومسكي الذي حصل كتابه «الهيمنة أم البقاء: سعي أميركا للسيطرة العالمية» على مرتبة أعلى الكتب مبيعاً عام 2002، لم يكن مرحباً به في الكثير من محطات التلفزة الأميركية، وهناك الكثير من القصص، والحكايات حول المنع، والتقييد تحت عناوين مختلفة، ففي عام 2011 صدر كتاب أحدث ضجة وبيع بأعداد ضخمة، وهو عبارة عن تقرير يصدر سنوياً عن مؤسسة مشروع للرقابة في الولايات المتحدة بمشاركة 30 جامعة من مختلف أنحاء العالم، وتدرس محتوى وسائل الإعلام الرئيسية في العالم كله، لتقدم تقريراً يشمل المعلومات المسكوت عنها إعلامياً، ليؤكد التقرير أن أربعة رؤساء أميركيين هم جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، إضافة لأربعة رؤساء حكومات بريطانيين، أخفى الإعلام عن العالم ارتكابهم لجرائم إبادة جماعية، وجرائم بحق الإنسانية تتعلق بإبادة ما يزيد على مليون ونصف مليون عراقي نصفهم من الأطفال، وكانت تلك المعلومات كفيلة بإثبات الاتهام عليهم وإدانتهم.

في فرنسا أصدر مجلس النواب الفرنسي قانون «فابيوس- جيسو» عام 1990 الذي يحظر إنكار حقيقة وقوع الهولوكست في الحرب العالمية الثانية، وعوقب بناءً على ذلك المفكر الفرنسي روجيه غارودي عن كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، حيث حكم عليه بغرامة مالية كبيرة، وفي فرنسا نفسها سُمح لرسام كاريكاتور في مجلة «شارل إبيدو» أن يهين الرسول (ص)، وأن ينشر فيلماً يسيء للرسول (ص)، لكن القضاء الفرنسي جَرّمَ كل من ينشر صوراً مشينة لزوجة الأمير ويليام في بريطانيا، فالأولى حرية تعبير، أما الثانية فتتعارض مع حرية التعبير!

قبل الغزو الأميركي للعراق كان ممنوعاً على أي وسيلة إعلامية أن تجادل أو تخالف رواية إدارة بوش الابن، ولا أنبوبة كولن باول، الشهيرة في مجلس الأمن، حتى إن أحد مذيعي «فوكس نيوز» قال: «عندما ستبدأ الحرب ضد صدام حسين فإننا نتوقع من كل أميركي أن يساند جنودنا، وإلا فليخرس، وأنا سأعتبره عدواً لأميركا»، أي أغلق فمك، وادعم رواية بوش الكاذبة لغزو العراق، والحقيقة أن الإعلام العالمي والنفطي، مارس الديكتاتورية نفسها تجاه الحرب على سورية إذ كان ممنوعاً على أي كان أن يقدم رواية مخالفة لما تم ترويجه حول «الثورة، والحرية، وحقوق الإنسان، والكيميائي، والاستبداد، والديكتاتورية» وشيطنة الدولة السورية ورئيس الجمهورية، وكل من وقف مع دولته، تارة باتهامه بما يسمى «تشبيح»، وتارة باتهامه بأنه معاد للحرية وضد الشعب، وتارة بالحديث عن الكرامة، وهؤلاء كانوا يتقاضون وما يزالون أموالاً عن كل شتيمة ومسبة يوجهونها لبلدهم وشعبهم، وينظّرون بالديمقراطية، لكنهم لا يقبلون رأياً آخر، ويريدون اجتثاث كل مخالف لرأيهم وقتله وتصفيته، هذا إذا لم نتحدث عن رواية «أظافر الأطفال في درعا» التي يمكن تصنيفها بأنها أكبر كذبة اخترعها الإخوان والقاعدة بدعم غربي منافق، وحينما دقق البعض في ألمانيا مثلاً، وجدوا أن إعلامياً ألمانياً حاصلاً على جوائز كان يكتب تقارير عن سورية كاذبة وغير دقيقة ليتم فصله لاحقاً.

الآن إذا كانت هذه هي حريتهم الإعلامية، فلماذا سأصدق قضاءهم، الذي يحاكم الطبيب السوري علاء موسى بناءً على تقرير بثّته «الجزيرة» القطرية، بالتعاون مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية أي بتمويل قطري، وأتي بشهود بعضهم ينتمي لـ«جبهة النصرة» المصنفة تنظيماً إرهابياً، مع دعم إخونجي بأموال مشيخة قطر الديمقراطية جداً، ليس بهدف إدانة طبيب سوري، إنما بهدف إدانة الدولة السورية ومؤسساتها، وتصوير حتى الأطباء فيها بأنهم مجرمون، والخطورة أيضاً أن أياً منا معرض لأن تُلفق له تهم بالمال القطري حين قيامه بأي زيارة لبلد أوروبي تحت عناوين مختلفة ليصور بأنه مجرم وخارج عن القانون، بينما اعتراف حمد بن جاسم «بإنفاق أكثر من 137 مليار دولار» على الإرهاب في سورية لم يحرك ساكناً لدى أحد، لأن مفهوم الحرية في الغرب أصبح يباع ويُشترى بأموال النفط والغاز بكل بساطة في كل من فرنسا وألمانيا وأميركا وبريطانيا، وبالتالي فإن الهالة والتقديس الذي أضافته آلة الإعلام الغربية، وبعض النُخب العربية على هذه القضية، سقطت سقوطاً مريعاً، وأصبح بإمكاننا أن نقول لمحطات التلفزة الممولة قطرياً وخليجياً، ولأولئك الذين مازالوا يعيشون وهم الحرية في الغرب: استيقظوا واعلموا أن الغرب يسمح لك أن تشتم أي شخصية تريدها في بلدك وبلده، ولكن عندما تقترب من مصالح أمنهم القومي يقولون لك: «اخرس» على طريقة «فوكس نيوز» الأميركية!

الزميل والصديق د. مكرم خوري مخول الشامي- الفلسطيني مدير، مركز كامبردج لمكافحة التطرف، حُورِبَ وهُدد من مؤسسات رسمية بريطانية لمجرد أنه وقف موقفاً أصيلاً مع سورية منذ بداية الحرب، وعقد مؤتمرات دعا فيها لضرورة إلقاء نظرة أكثر موضوعية، وأكثر دقة لما يجري من حرب ضد دمشق، ومع ذلك لم تقبل وسائل الإعلام البريطانية موقفه أبداً، وواجه حرباً حقيقية في لندن، وهذا نموذج لما يمكن أن يتعرض له الذين هاجروا للغرب، وملخصه أن عليكم أن تنسلخوا عن معتقداتكم ومواقفكم ووطنيتكم وجذوركم، وما كنتم تسمعونه عن الحرية في الغرب فخ سقطتم فيه الآن، لأن الحرية التي كنتم تعرفونها أصبحت في وادٍ آخر.

الآن كي لا يفهمني أحد بشكل خاطئ، ويعتقد أنني أدعو لقمع الرأي الآخر ورفض الحرية، فإنني أقول إن الحرية في الغرب هي مفهوم أو مصطلح مطلوب بما يخدم القضية الوطنية، ولا اعتبار للحقيقة، ولا حق للمواطن الغربي أن يعرفها إلا إذا كانت تخدم المصلحة الوطنية، وهنا بغض النظر عما تراه ألمانيا أو فرنسا أو أميركا أو بريطانيا، أو أي دولة أخرى غربية مصلحة قومية أو وطنية، فإن على هؤلاء أن يدركوا أيضاً أن هناك مصلحة وطنية لبلداننا وشعوبنا، ولا يمكن بعد الآن الاستماع لمسؤولين غربيين، أو مدعي حرية سوريين يجلسون في مشيخات النفط، ويرضعون الحريات هناك، أو في بلدان غربية لينظّروا علينا بالحرية والكرامة، لأن من حق أي دولة أن تدافع عن مصالحها الوطنية، وشكل نظامها السياسي- الاجتماعي وتحالفاتها، وهوامش الحريات، وتطور الديمقراطية بما يتفق مع واقع مجتمعها، وتطوره المستقبلي.

هذا هو الأهم، أما استمرار الغرب بالتنظير علينا، فهذا أمر لا نستطيع منعه، لكن بإمكاننا القول لهم بأدب وتهذيب «أغلقوا أفواهكم» كي لا نستخدم المصطلح الديمقراطي الأميركي «شت أب» أي «اخرسوا».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن