ثقافة وفن

علم النفس الاجتماعي ومساحات من التطبيق … يستفيد من العلوم كافة ليقدم رؤية للحياة والمجتمع

| إسماعيل مروة

صدر عن الهيئة السورية العامة للكتاب كتاب جديد يحمل عنوان (علم النفس الاجتماعي) وهو للباحث الفرنسي غوستاف نيكولا ينشر، المعني بالدراسات النفسية والسلوكية، ومن ترجمة الدكتور غسان بديع السيد أستاذ النقد الحديث في جامعة دمشق، الذي ترجم عدداً من الكتب القيمة المتعلقة بالتحليل النفسي والأدبي. إضافة إلى التاريخ الأدبي الأوروبي، والجهود النقدية، والكتاب يحمل أهمية خاصة، لأن هذا الموضوع الشائق من الصعب أن نجد حوله دراسات مخلصة علمية، وكل ما نحصل عليه عبارات مجتزأة هنا وهناك، ولكنها لا تقدم رؤية متكاملة، وهذا الكتاب يشكل مرجعاً متكاملاً ومهماً يمكن أن يسدّ ثغرة في المكتبة النقدية والاجتماعية، خاصة ونحن عند استعراض الكتاب سنجد أن المرجعيات من أهم واضعي النظريات من فرويد إلى دوركهايم وأوغست كونت، ومن أميركا إلى روسيا وأوروبا.

المدخل والإبهار

علم النفس الاجتماعي، واسمه يتطابق مع مدخله المدهش، ويؤكد براعة مؤلفه وأصالته، المدخل يبدأ من حديث مراقب متابع عن وفاة الرئيس الفرنسي ميتران، وجنازته والاستعدادات لها وتعامل الناس شعبياً معها، وكان هذا المدخل من الأهمية بمكان بدل الدخول في الأطر النظرية والتنظيرية، فمن خلاله قدم لنا الفكرة المتكاملة عن مفهوم علم النفس الاجتماعي، وكيفية تحول الفردي إلى مجتمعي، ضمن سياق من النفس وتأثيراتها، وفي ذلك يقول المؤلف «كان موت ميتران حدثاً اجتماعياً ووطنياً فيه جوانب مختلفة تهم علماء النفس الاجتماعيين، يمكن بذلك أن نمسك مباشرة بعداً أساسياً هو قوة الرابط الاجتماعي الذي عبّرت عنه محبة آلاف الأشخاص تجاه رحيل.. العم العزيز، شكراً من أحد المهاجرين.. أحبك، هذا كل شيء ببساطة».

فالكاتب على دراية بصعوبة الوصول إلى علم النفس الاجتماعي لذلك بدأ بهذا المثال التطبيقي الذي عايشه، وأخذ يتابعه خطوة خطوة، وينقل انفعالات الناس من الفرنسيين والمهاجرين والأغراب، لأن الغاية هي دراسة العلاقة الاجتماعية البينية بين الفرد والمجتمع، وهذا المثال قدم رؤية واضحة ومفهومة للعلاقة وروابطها، خاصة أن المؤلف اختار شخصاً قد رحل، ولا يحتاج المجتمع إلى مجاملته.

علم الاجتماع وتشعباته

يعد علم النفس الاجتماعي من العلوم الحديثة من حيث التنظير والتطبيق في الدراسات والمؤلف يستعرض ولادة هذا العلم وأعلامه في أوروبا وأميركا والدول الشرقية، كما يضيف الكثير من النظريات والرؤى المهمة الفلسفية والنفسية سواء جاءت قبل أو بعد هذا التعزيز لوجود علم مستقل تقوم عليه نظريات أدبية ونقدية واجتماعية يسهم فيها جملة الفلاسفة وعدد من الباحثين الاجتماعيين وعلماء النفس، ومن استعراض محاور الكتاب وأبوابه نعرف مدى أهمية هذا العلم وجدّته فعلى أكثر من 540 صفحة من القطع الكبير تناول الكاتب (ماهية علم النفس الاجتماعي- حقل علم النفس الاجتماعي- التطور- النماذج – المناهج- المجتمع- المواقف السلوكية- الشخصية والثقافة- الاندماج والهوية- موضوعات علم النفس الاجتماعي- مواقفه- مساراته- إشكاليات التأثير- طرائق تعبير التأثير- المعتقدات الاجتماعية- الأحكام المسبقة والتميز الاجتماعي- الصور النمطية والأحكام المسبقة- علم النفس الاجتماعي التطبيقي- العوامل النفسية- الأمراض الخطيرة- الوضع الاجتماعي البيئة والسلوك الاجتماعي- السلوك المناطقي- التأثير النفسي- العمل والحياة الاجتماعية- الاستهلاك والدعاية- دراسة سلوك المستهلك- التسويق والدعاية..) هذه الموضوعات المتعددة التي تناولها المؤلف تبين أهميته بصورة كبيرة، فهو يجول في القضايا الاجتماعية والحياتية، ولا يقتصر على تقديم الأطر النظرية لعلم النفس الاجتماعي، وما جاء به من عناوين يظهر قدرة علم النفس الاجتماعي في الميادين السياسية والحياتية وغير ذلك.

ماهية علم الاجتماع والجذور

يعيد المؤلف تعبير علم الاجتماع إلى أول من قال به أوغست كونت الذي عُدّ مبتكر علم الاجتماع ويرى الإنسان الاجتماعي ضمن الإطار الذي هو، بصورة أساسية، إطار الجماعة، في الحقيقة تشكل الحياة ضمن الجماعة من وجهة نظره أساس الواقع الاجتماعي.. ومن هذه الرؤية الأولى لعلم الاجتماع يمكن النظر إلى النظرية التالية التي تشكلت عن علم النفس الاجتماعي، والتي تتناول بصورة مباشرة العلاقة بين الفرد والمجتمع بالاتجاهين معاً، وتأخذ في الحسبان جميع المتغيرات الممكنة والطارئة على هذه العلاقة التي تبنى عليها شبكات الحياة الاجتماعية.. وبعد جولة يؤسس المؤلف لتعريف علم النفس الاجتماعي بنص واضح «يمكننا الآن أن نقدم تعريفاً أكثر دقة، علم النفس الاجتماعي هو العلم الذي يدرس التصرفات البشرية والظواهر الإنسانية بوصفها مسارات علائقية لا يمكن الفصل بين النفسي والجمعي داخلها، بصورة أكثر دقة، ينظر علم النفس الاجتماعي إلى كل فرد في حقيقة كونه كائناً اجتماعياً، ويحلل تصرفاته كونها تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة».

فعلم النفس الاجتماعي كما يورد المؤلف تحدد بعلم له معطياته من دراسة العلائقية المجتمعية بين الفرد ومجتمعه، وليست مقتصرة على دراسة جوانب اجتماعية، ونفسية، بل إن التطبيقات والدراسات والشرائح التي تمت دراستها، والدراسات التي قدمها باحثون متخصصون تظهر أهمية هذا العلم الجديد، وتحوله إلى ميدان يدخل في تفسير الحياة الاجتماعية والنفسية وتحليلها على كل صعيد، بما في ذلك التقلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لوجود العلاقة الوطيدة بينه وبين البيئة الفكرية للفرد الذي يشكل الجماعة ويتفاعل معها.

وبعد: عنوان مهم وجاذب، وترجمه د. السيد بلغة عالية وقريبة من القارئ، لكن كمّ الدراسات والنظريات التي قدمها المؤلف بمعلومات موثقة جعل البحث بحاجة إلى قراءة متأنية، وجعله مرجعاً مهماً في المكتبة يعطي الفكرة التامة والغنية عن هذا العلم ونظرياته منذ ولادته إلى اليوم، ولم يعد النظر إلى هذا العلم من زاوية واحدة محددة مسبقاً وفق فرويد أو دارون أو سواهما ممن عرفنا أطراف أقوال لهم وأخذنا حكماً مسبقاً قبل أن نقف عند جوانب النظرية.

ولندرك عمق هذا العلم وأبعاده، وتباشير حلوله مكان علوم أخرى عديدة، لنقرأ العبارات الأخيرة في الكتاب والتي تظهر لنا الأبعاد التي يشملها، والمساحات التي يجب أن تعرّف هذا العلم «يبدو أن أبحاث علم النفس الاجتماعي، حول مشكلة العنف مثلاً، لم تتطور كثيراً، إن مسألة علاقة علم النفس الاجتماعي بموضوعه هي المطروحة عبر مواجهته لإشكاليات اجتماعية ملموسة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن