يحسب بعض الناس أن المسرة القصوى تكمن في نجاح الأبناء ورؤيتهم وهم يصنعون مصائرهم ويتفوقون على أنفسهم، غير أنني أستطيع القول إن شعور المعلم وهو يرى طلابه يعملون وينضجون وينجحون لا يقل مسرة عن شعور الأب، بل قد يكون أكثر إنسانية وغيرية ولطفاً.
والحق أن نجاحات طلابي خلال السنوات القليلة الماضية ساهمت إلى حد كبير في إضاءة لحظاتي الكابية. يقول ليوناردو دافنشي «من لا يتفوق على معلمه يكن تلميذاً بائساً». ومن بين من تفوقوا على معلميهم مؤخراً المذيعة الشابة مي زوربا. فهي تقدم حالياً برنامجاً حوارياً تلفزيونياً طوله ساعتان بعنوان «وجهاً لوجه» على قناة سورية دراما. وقد استضافت في حلقة الأسبوع الماضي المخرج الصديق باسل الخطيب عميد المعهد العالي للفنون السينمائية.
ما استوقفني أن الآنسة مي قالت أثناء مناقشتها لكوادر المعهد: «يقول حسن م. يوسف إن السيناريو لا يُعَلَّم» وأنا إذ أشكر الأستاذ باسل الخطيب لتفضله بتقديم التوضيح اللازم، إلا أنني أود أن أهمس في أذن العزيزة مي بأن اجتزاءها لكلامي قد حزّ في نفسي. نعم أنا أقول لطلابي في دروس السيناريو إن الكتابة الإبداعية لا يمكن تعليمها، وأتبع في التدريس نهج سقراط، أي إنني: «أشير إلى مفاتيح الدروب، وإلى مواقع الخطوات السليمة الأولى، وأدع البقية لمن أراد المسير كل حسب هواه وطاقته». كما أتبع نهج أناتول فرانس في نظرته لفن التدريس إذ يقول: «فن التدريس ما هو إلا فن إيقاظ العقل بغرض إشباع هذا الفضول فيما بعد».
نعم أنا أقول لطلاب السيناريو منذ أول لقاءاتنا إنه ما من كاتب في هذا العالم يمكن أن يعلمكم الكتابة الإبداعية إلا إذا كنتم تملكون موهبة الكتابة، لأن الإبداع هو خلق جديد على غير ما يقاس.
في كتابه «حلم غاية ما»، الذي نقلته إلى العربية الأستاذة لطفية الدليمي، أدرجت المترجمة مقالاً في بداية الكتاب بعنوان «صنعة الإبداع»، الذي نُشر في كتاب «فن الرواية». يقول مؤلفه كولن ولسن (1931-2013) في افتتاحية مقالته:
«حصل في ربيع عام ١٩٧٤ أن تعاقدتُ مع جامعة روتغرز الأميركية في نيوجيرسي على تدريس منهج الكتابة الإبداعية، وكان ذلك نقطة مفصلية حاسمة في حياتي، إذ سبق لي قبل ثماني سنوات من ذلك التاريخ أن حاولت تدريس الكتابة الإبداعية في إحدى الكليات بولاية فيرجينيا وانتهيت إلى قناعة حاسمة بأن هذه المادة عصية على التدريس، ولا يقتصر الأمر على هذا وحسب، بل يتعين عدم تدريسها بأي شكل من الأشكال! فقد شعرت بأن المبدأ الأساسي للإبداع هو القانون الدارويني التطويري القائل ببقاء الأصلح؛ إذ لطالما رأيت الكتابة الإبداعية عملية شاقة كارتقاء تلة عالية، حيث يتساقط الضعفاء على جانبي التلة بينما يواصل الأقوياء الارتقاء بتمهل حتى يصبحوا كتّاباً جيدين. إن تشجيع هؤلاء الذين يمكن لهم أن يكونوا كتّاب المستقبل عملية شبيهة بوضع السماد في مزرعة تمتلئ بالأعشاب الضارة».
شيء جميل حقاً أن نرى طلابنا يتفوقون علينا لكن مما يحز في النفس أن نرى بعضهم يتذكرون كلامنا مجزوءاً.