قضايا وآراء

غير بيدرسون.. «تائه الخطوة يمشي ملكاً»!

| عبد المنعم علي عيسى

لإعطاء الرجل حقه، أو لإنصافه في الجهود التي يبذلها لحل أزمة وجد نفسه في خضمها بعد مراكمات من الفشل كان قد كرسها أسلافه الثلاثة الذين سبقوه، لا بد من الاعتراف بأن المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون يمتلك في كاريزماه صفات ومؤهلات زائدة عن تلك التي امتلكها هؤلاء، ولعل أبرزها نفسه الطويل الطاغي بوضوح في سلوكياته التي اعتمدها منذ أن تولى مهامه كميسر بين أطراف أزمة سياسية هي الأعقد من بين الأزمات الإقليمية المنتشرة على امتداد العالم، ثم النظرة المتحركة التي ما انفك يحاول تطويرها عبر توسعة حدقة الرؤية الأمر الذي يتيح له هوامش مناورة أوسع بما لا يقاس عن تلك «الجامدة» التي اعتمدها أسلافه، والتي كانت في جلها محاولات لاستنساخ تجارب جاهزة كانوا يرون أن نجاحها في بلدان معينة يمثل سبباً كافياً لمحاولة تطبيقها في سورية، خصوصاً أن القوالب الجاهزة لا تحتاج إلى مزيد من العناء والتعب، ناهيك عن أن «نجاحها» السابق غالباً ما يغري بتكرار المحاولة، على الرغم من المحاذير التي تحملها تلك الرؤية، فما يصح بالنسبة لجغرافيا معينة قد لا يصح لأخرى مهما كانت قريبة منها، وما يصح أيضاً لتركيبة اجتماعية – ثقافية قد لا يصح لأخرى مهما كان التشابه بينهما كبيرا.

شكل التلاقي الروسي الأميركي الحاصل في جنيف شهر حزيران الماضي فرصة أمام بيدرسون لإطلاق رؤيته التي اختصرها بمقولة «خطوة مقابل خطوة»، والمؤكد هو أن هذي الأخيرة كانت قد جاءت بإيماءة أميركية يستدل عليها من الآلية التي استندت عليها، ومفادها أن تبادر دمشق بخطوات نحو الحل مقابل أن تقوم واشنطن بإجراءات «انفتاحية» من نوع التخفيف التدريجي للعقوبات التي تفرضها على الأولى، وكذا غض الطرف عن الانفتاح العربي على هذي الأخيرة، ثم تقديم تعهدات بقيامها، أي بقيام واشنطن، بخطوات من شأنها تسريع وتيرة «التعافي المبكر» في سورية وفقا للمصطلح الذي استخدمه مسؤولو الخارجية الأميركية لمرات عدة وفي العديد من المناسبات، ومن المؤكد هو أن دمشق نظرت، وفي الأمر ما يدعو إليه، بعين الريبة لتلك الرؤية التي تغيب فيها الإجابة عن سؤال هو الأهم: إلى أين تريد تلك الخطوات أن تصل؟ وبمعنى آخر ما هي الخطوة الأخيرة التي ستهيئ المناخات اللازمة لنضج التسوية؟ فدمشق التي تلحظ تغير المناخات المحيطة بالوجود العسكري الأميركي في مناطق شرق الفرات، رأت في طروحات بيدرسون سابقة الذكر، أداة لترسيخ ذلك الوجود ومحاولة لـ«شرعنته» الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى اعتباره جزءا من الحل، وليس جزءا من الأزمة، كما تراه دمشق ومعها حلفاؤها، بل بعض الخصوم المنضوين في سياقات مسار «أستانا».

عزف المبعوث الأممي في إحاطته التي قدمها إلى مجلس الأمن أواخر شهر كانون الثاني الماضي عن المرور على ذكر «الخطوة مقابل الخطوة» على الرغم من أنها تمثل بالنسبة إليه الركيزة التي تستند إليها تحركاته راهناً، وإلى أجل يبدو غير مسمى، ولربما كان ذلك العزوف نابعا عنده من الموقف الذي انتقد فيه وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد تلك الرؤية قبيل نحو أسبوعين من تقديم بيدرسون لإحاطته سابقة الذكر، وفي السياق كان المقداد قد اعتبرها «تدخلا في القضية السورية»، ما يعني خروجا لبيدرسون عن المهام الموكلة إليه، قبيل أن يطالب المقداد هذا الأخير بالوقوف على الحياد، لكنه، أي بيدرسون، عاد بعد ثلاثة أيام ليؤكد في تصريحات صحفية أن إستراتيجيته ثابتة، وأنها تحظى بنصيب وافر من الدعم الذي تبديه كل من موسكو وواشنطن لتلك الخطة.

هنا يمكن القول إن «النظرة المتحركة»، التي قلنا إنها إحدى مزايا بيدرسون، قد غابت، لأن عدسة بيدرسون بدت وكأنها قد تثبتت عند مخرجات قمة جنيف منتصف شهر حزيران المنصرم التي شكلت مظلة واقية سعى في ظلالها إلى رسم سياساته وبناء تحركاته، والشاهد هو أن نسيج تلك المظلة قد أصابه بعض التهتك بفعل هبوب أعاصير شتى كانت أقوى من قدرة ذلك النسيج على المقاومة، فموسكو أبدت في الآونة الأخيرة نزعة تعارض بشدة الوجود الأميركي في سورية، حتى إن البعثة الروسية في الأمم المتحدة أصدرت بياناً، قبل أسبوعين، قالت فيها إن ذلك الوجود يمثل «عثرة في طريق التسوية» وأضافت: إن واشنطن تسعى إلى «تقسيم سورية عبر السيطرة على منابع النفط، ودعم «قوات سورية الديمقراطية»، وقبيل أيام نشرت وكالة «سبوتنيك» الروسية تقريراً صادراً عن الاستخبارات الروسية جاء فيه أن واشنطن «تدفع وتخطط لدفع المتطرفين باتجاه مهاجمة القوات السورية والروسية والإيرانية»، ثم إنها «تسعى إلى تشجيع الاحتجاجات»، وهذا كله يمثل حالة «نصف افتراق» يتبعها بالضرورة إلغاءات لنصف توافقات جنيف، صحيح أن حالة الـ«نصف افتراق» قد تكون مرحلية، بمعنى أنها قد تزول بزوال مسبباتها من نوع الاحتقان الحاصل في مفاوضات فيينا التي شارفت على الدخول في خواتيمها، والتي ستدخل معها الأزمة السورية منعرجا لربما سيكون الأهم منذ هبوب «عاصفة السوخوي» خريف العام 2015، ومن نوع السخونة الحاصلة في أوكرانيا التي أبدت مؤخراً مؤشرات على إمكان حصول تبريد في أنابيبها، والاحتمال قائم إذ لطالما أظهر الغرب بكل أقطابه استعداده لتقديم «السلم» اللازم لنزول «القيصر» بعدما ارتقى هذا الأخير عاليا، لكن الصحيح أيضاً أن تلك الحالة الراهنة قد تستمر طويلا حتى يتكشف الضوء من آخر النفق، ورسم السياسات ليس فعلاً شبيهاً بالمراهنات، ولا يجب أن يكون فعلا قريبا من «صورة الفوتوغراف» الثابتة.

ما يؤخذ على أداء المبعوث الأممي، الذي نقر بأنه الأميز بين من سبقوه، هو تغليبه للتوازنات الخارجية على نظيرتها الداخلية، وعلى الرغم من أهمية الأولى في صنع السياسات التي يمارسها، إلا أنها لا يمكن أن تكون بديلاً، أو لاغياً، للثانية، والتغليب هنا، حتى ولو نجح فيه، فإنه سينتج بالضرورة حلاً سياسياً مفروضاً من الخارج، وهذا لن يكتب له الديمومة والاستمرار إلا إذا كانت «كواليسه» تنبئ بضرورة إنضاج هكذا حل على طريقة المعالجة بالمسكنات، فحل لا يتوافق عليه السوريون، وهو يأخذ بعين الاعتبار تركيبتهم المجتمعية والثقافية، لن يكون قابلاً للحياة تماماً كما كان اتفاق «الطائف اللبناني» عام 1989 الذي اهتز، حتى الآن، مرتين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن