الأولى

الازدهار المجاني

| بقلم: أ. د. بثينة شعبان

قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد حديثه مع وزيرة الخارجية البريطانية: «كان حوارنا كحوار الأبكم والأصم». وجميعنا يلحظ في الآونة الأخيرة أنواعاً كثيرة من هذه الحوارات سواء تعلق الأمر بأوكرانيا أو القرم أو أفغانستان أو تايوان أو ليبيا أو العراق أو حتى بشؤون داخلية في بلدان بعينها، نلحظ انقسامات حادة لا يسمع أي فريق الفريق الآخر بحيث وصل العالم فعلاً وفي كثير من قضاياه الدولية والمحلية إلى مرحلة حوار الطرشان، والسؤال هو: لماذا؟ وأين كان العالم قبل هذه المرحلة؟ وأين الوجهة المحتملة له بعد هذه المرحلة؟

لقد خضع العالم على مدى القرون الماضية لموجات استعمارية رومانية وبيزنطية وعثمانية وغربية، وعكفت هذه القوى على استغلال واستثمار موارد الشعوب والدول لمصلحة بلدانها وسكانها؛ ومن هنا شهدت الدول الغربية مرحلة التوسع والإعمار والازدهار لأنها عملت على سلب الدول الإفريقية والآسيوية ودول أميركا اللاتينية خيراتها الطبيعية لتبني بها «حضارتها» وصناعتها وأمجادها ولتقنع شعوبها أنهم هم الأذكى وأنهم قادرون على التطور والإنتاج وأن ما عداهم من الشعوب أقل منهم قدرة وكفاءة. وهكذا فقد سلبوا إفريقيا وما زالوا، على سبيل المثال، معظم ما تمتلكه من المعادن والثروات والذهب والفضة وصمّموا لها أنظمة سياسية تُبقي دولها رهائن بيد السياسات الغربية.

وهذا ينطبق أيضاً على دول آسيا ودول أميركا اللاتينية، ولكن مع استفاقة شعوب هذه القارات وإدراكها لمقدراتها وأهمية هذه المقدرات ومحاولاتها الإمساك بأقدارها متخذين من الصين والاتحاد السوفييتي السابق سنداً ودعماً وأنموذجاً فقد عملت الدول الغربية على الالتفاف بعضها حول بعضٍ وتسمية نفسها بالدول «الصناعية» أو «الدول المتقدمة» أو «الدول الحضارية» أو «دول المجتمع الدولي» أو «الجي7» مع أن هذه الدول لا ينطبق عليها التعريف الذي أعطته لنفسها وخاصة بوجود العملاق الصيني ووجود الهند وروسيا سواء من حيث عدد السكان أم من حيث التطور الصناعي أو الحضاري أو التقدم العلمي.

لقد اعتادت الدول الاستعمارية القديمة والإمبريالية الجديدة أن تسبّب الحروب وتغتال قادة الاستقلال في أي بلد ترغب في سلب موارده واستخدام أسلحتها وتشغيل مصانع السلاح لديها لتغذية الفتن والحروب سواء في البلد الواحد أم بين بلدان متعددة، وسخّرت من أجل هذا كله إعلاماً عالمياً وموّلته بشكل سخيّ من موارد هذه الدول ذاتها، كما مولت العملاء من هذه الدول كي يقوموا بالأعمال القذرة لمصلحتها في بلدانهم مقابل الفتات الذي ترميه لهم من خيرات بلدانهم معتمدة في ذلك كله على خطط ومراكز أبحاث وأفكار شيطانية معدّة سلفاً لتغذية ازدهارها المجاني على حساب هذه البلدان والشعوب مع حملات مستمرة لإقناع سكان هذه الدول أنهم أقلّ ذكاءً وقدرة على مضاهاة العرق الأبيض وأنهم مهما حاولوا لن يتمكنوا من بلوغ المستوى الحضاري والإنتاج العلمي للدول السبع المتحضرة!

أما وقد تغيّر العالم اليوم وظهر قادة وطنيون مؤمنون بمقدرات بلدانهم وبذكاء شعوبهم فقد عملت الآلة الإعلامية التي تستخدم الفضاء الإلكتروني بنشاط على مهاجمة هؤلاء وتشويه سمعتهم، ويمكن ملاحظة دور شبكات العملاء على صفحات «الفيسبوك» وهي تهاجم هذا أو ذاك وتحرض الرأي العام على المسؤولين في هذا البلد أو ذاك المستهدف من قبل أسيادهم. أما وقد أثبتت الصين إنتاجية عالية ليس في السلاح فقط كما هو الحال في الولايات المتحدة وإنما في أنواع المنتجات الاقتصادية كافة فإن الغرب يجد نفسه محاصراً ومهدداً بفقدان الازدهار المجاني الذي درج على قطف ثماره من دون عناء بنهب ثروات الشعوب، وأما وقد تطور وعي الشعوب أيضاً لتدرك أن من يتحدث باسم هؤلاء المستعمرين ما هو إلا خائن وعميل لهم ولا تقيم وزناً لأي رأي يمكن أن يصدر عنه لأنه يتحدث باسم أسياده أعداء الوطن ولا قيمة له أو لهم لأن مصيرهم هو مزبلة التاريخ فإن هذا الوعي أيضاً يحاصر من اعتاد نهب الخيرات والثروات بأبسط السبل وعلى من اعتاد تجنيد العملاء بدراهم معدودة من خيرات بلدانهم لتدمير بلدانهم وشعوبهم.

ولمن يريد أن يستشهد بأنهم ما زالوا أقوياء أقول: إننا مازلنا في خضمّ المعركة وإنها لم تنته بعد وأن الأمور بخواتيمها؛ فإذا كانت منظمة العفو الدولية قد صنّفت الكيان الصهيوني هذا العام بأنه نظام فصل عنصري، الأمر الذي لم يكن يحلم به أحد أن يحدث منذ عدة أعوام، فإن كل شيء ممكن وإن كل ما هو مطلوب هو الصبر والثبات على المبادئ والقيم، من هنا نفهم شراسة الأكاذيب التي يبثها الإعلام الغربي وتوابعه حول أوكرانيا وهي أكاذيب مفضوحة ومخجلة؛ إذ إن كل ما تطلبه روسيا هو تطبيق اتفاق «منسك» وضمان عدم تمدد الناتو إلى حدودها ولكن المسؤولين الغربيين والإعلام الغربي لا يذكرون هاتين النقطتين أبداً، بل يروّجون أن روسيا تنوي غزو أوكرانيا، علماً أن الأسلحة الوحيدة التي وصلت إلى أوكرانيا هي أسلحة أميركية وغربية بهدف توريط أوكرانيا وروسيا بحرب ضروس مثل حرب العراق ضد إيران من أجل إنهاك البلدين، غير مبالين بضحايا هذه الحرب بل الهدف هو صناعة الحروب وبيع الأسلحة؛ فقد نشر ستيفن سيملر في «الجاكوبيان» مقالاً بعنوان أنه إذا تمّ تمرير القرار بخصوص أوكرانيا من الكونغرس فإننا سنغرق أوكرانيا بالأسلحة الأميركية. وينص مشروع القرار على بيع مخزون الأسلحة إلى أوكرانيا رغم تسميتها «بالمساعدة»، إلا أن الكاتب يوضح أن المستفيدين الوحيدين من مقترح «المساعدة العسكرية» إلى أوكرانيا هم صناع السلاح الأميركيون ووزارة الدفاع الأميركية والاثنان يبدوان مصممين على تمرير مشروع هذا القرار، ذلك أن اقتصادهم قائم على بيع السلاح، بينما الاقتصاد الصيني قائم على الإنتاج الحقيقي، ولهذا هم يريدون الحروب لنهب الشعوب بينما تسعى الصين إلى خلق المزيد من التنمية في دول العالم لخدمة اقتصادها واقتصادات العالم قاطبة.

قد نفهم بالمنطق أن الدول التي تعيش على تصنيع الأسلحة ونهب الثروات تحاول أن تحافظ على ازدهارها المجاني لأنها من دون هذا النهب ومن دون هذه الحروب ستشهد انهياراً حتمياً لاقتصادها ولذلك تم غزو ليبيا وقبله العراق من أجل نهب ثرواته، ولكن ما يستعصي على الفهم هو لماذا يتحمس العملاء والخونة للدفاع عن أعداء الوطن والأمة وبثّ المقولات التي سمعناها مراراً وتكراراً من عدو إسرائيلي شرس عُرف عنه أنه يفتك بعملائه بعد استخدامهم؟

وفي سورية تنهب المخابرات العسكرية الأميركية النفط السوري من الجزيرة لتمويل عملائها في الميليشيات العميلة ولتمويل انبعاث عصابات داعش من جديد، ولتمويل شبكات الصفحات الإلكترونية العميلة التي تستهدف سورية وشعبها بحملات إعلامية موجهة من أسيادهم، أم إنه هنا أيضاً كما قال لافروف «حوار الأبكم والأصم»!

هل يعرف أحد من اغتال تشي غيفارا أو سيلفادور الليندي؟ ولكنّ العالم برمّته يحفظ ويردد أسماء الشرفاء الذين دافعوا عن بلدانهم وإن قضوا في سبيلها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن