أنطون وسمير إليوفيتش يونانيّا الأصل … سوريّا الهوى والعشق
شمس الدين العجلاني :
ما بين دمشق وأثينا هو من صنع الله: الحضارة والعراقة والجمال، التاريخ والأصالة والشمس التي لا تغيب، كل ذلك يتبختر في أزقة أثينا كما يتبختر في أزقة الشام، فأينما سرت تعطرك رائحة التاريخ في الزمان والمكان…
من كل شرفاتِ منازل أثينا تتدلى عقود الياسمين. وعلى كل جدرانِ منازل دمشق تتعربش أطواقُ الياسمين.
العشق بين أثينا ودمشق:
نقرأ عشقَ أثينا لدمشق على كل أبوابِ وشرفاتِ وتاريخ دمشق العتيقة.
الحب والعشق بين أثينا ودمشق قديم عتيق، ونبع الثقافة الإغريقية أمطر في سماء دمشق عشرة قرون..
أثينا عروس البحر المدللة الفاتنة، آلهة الحكمة الإغريقية. ومدينة هيرودوت وسقراط وأفلاطون، وصاحبة الفلسفة وينبوع المعرفة، هي أثينا التي نشرت الحضارة الهلنستية، على كل شرفات الشام، وتمازجت مع ثقافة الشام وحضارة الشام وارتبطت بعشق حضاري مع الشام وأهل الشام…
الوردة الدمشقية تغزّل بها هوميروس ودونت في ذاكرة الإغريق وحملها اليونانيون إلى أرجاء العالم وقالوا إنها ملكة الأزهار.
دمشق الشام مدينة بسبع مدن، وسبع بحرات، وسبعة أنهر، وأبوابها سبعة ولدت من الكواكب السبعة، ودمشق وأثينا تاج مدن الحضارات السبع، وأثينا ودمشق كأسطورة طائر الفينيق الذي يحترق عند المساء، لينتفض من جديد مع مطلع الصبح.
هذا العشق بين سورية واليونان متأصل في الحجر والبشر وما بين أثينا ودمشق هو من صنع الله…
ومن هذا العشق المتنامي بين أثينا ودمشق كانت عائلة إليوفيتش ومن هذه العائلة العريقة في الفن والإبداع الفنانان أنطون وسمير إليوفيتش.
الأب والابن:
الابن هو سمير أنطون ميخائيل ديمتري إليوفيتش يوناني الأصل والده ميخائيل الملقب أبو ديب الترك، مواليد دمشق حي القصاع حارة الصليب عام 1896 م ووالدته مجيدة عوض موسى نظور منزل أهلها في منطقة الصوفانية، حيث ظهرت السيدة العذراء على الابنة ميرنا الأخرس فأصبح بيتهم محجاً لجميع المؤمنين…
توفيت مجيدة نظور في أثينا يوم 10/9/1990 م. وكل عائلة أنطون هم من مواليد ورعاية ونشأة مدينة دمشق.
نشأ سمير اليوفيتش في بيئة يحترف أفرادها الفن، فوالده أنطون اشتهر بدمشق بأنه من أمهر معلمي النحت وتتلمذ على يديه العديد من معلمي النحت في سورية حتى يقال إن كل من عمل في النحت من أبناء مدينة تل منين في ريف دمشق تتلمذوا على يديه… وأيضاً كان عمه إيليا ميخائيل إليوفيتش من أهم من تعامل بالنحت على الحجر بدمشق..
من أشهر أعمال الأب أنطون الزخارف والمنحوتات في مبنى البرلمان السوري حين تم إنشاؤه عام 1928 م وبعد الاعتداء الفرنسي عليه عام 1945 م، كما عمل في زخرفة النحت في كل من المتحف الوطني، لجنة مياه عين الفيجة، فندق الشرق الشهير في ساحه الحجاز، جامع تنكز في شارع النصر، جامع بعيرة في ساحة السبع بحرات، بطركية أنطاكية وسائر المشرق «المريمية» بعهد صاحب الغبطة اسكندر طحان، كنيسة الصليب المقدس، كنيسة وادي شمس، إضافة لأعمال فنية كثيرة في دير سيدة صيدنايا، ومنزل جميل مردم بك، ومنزل العيطة، والعديد من المنحوتات في باب توما، وساحه الأمويين… توفي أنطون إليوفيتش في لبنان يوم 3/10/1973م.
أما الابن سمير إليوفيتش فكان، إن صحت التسمية، فناناً شاملاً في مجال الفن التشكيلي، فقد أيقن سر اللوحة المرسومة فأبدع برسوماته، وأمسك الإزميل كما يمسك الشاعر القلم فكتب به أروع المنحوتات، وبكاميرته كتب أروع القصائد… وهكذا بدأ سمير حياته الفنية في الرسم فالنحت فالتصوير الفوتوغرافي.
لسمير إليوفيتش فلسفته الخاصة في الفن التشكيلي، فيقول في حديث صحفي له عام 1995 م: «تعاملي مع اللوحة هو الأسبق.. اللوحة يمكن لنا التعامل معها بشكل دائم نرسم ونعيد وننظف ونطمس وهكذا حتى نصل إلى نتيجة مرضية» وعن فن التصوير الفوتوغرافي فيقول سمير: «أما التصوير الفوتوغرافي فالأمر يحتاج إلى دقة متناهية في التعامل مع الكاميرا واقتناص اللحظة التي يرى فيها المصور أنها هي اللحظة الحاسمة وحينما نخطئ الإصابة فلا يمكن إعادة التجربة بسهولة.. الصورة أكثر بلاغة ونقلاً للحقيقة، الكاميرا أكثر سحراً وأصعب تعاملاً».
لقد أدرك سمير أن الصورة الناجحة تأتي مع الخبرة ورهافة حس المصور.
بدأ سمير إليوفيتش حياته الفنية رساماً، ثم اتجه نحو النحت فمصوراً فوتوغرافياً محترفاً. سمير كباقي أفراد عائلته ولد بدمشق ودرس في مدارسها وتخرج في بيروت من أكاديمية الفنون الجميلة. جمع سمير في أعماله بين الفن العربي والفن الإغريقي وغيًر مفاهيم تقنيات التصوير في العديد من المدن التي أقام فيها.
أقام خلال حياته ما بين سورية ولبنان واليونان والسعودية وحط به الترحال اليوم في أثينا حيث يعيش حياة هادئة بعد ترحال طويل وإبداع كثير وجوائز وأوسمة ومعارض فنية كثيرة.
تنقل الابن سمير إليوفيتش بين العديد من البلدان الأوروبية وأقام فيها المعارض الفنية وحصل على الجوائز والثناءات والأوسمة، منها جائزة أحسن رسام في المعرض الدولي الذي نظم في ألمانيا عام 1966 م، وفي عام 1974 م منح وسام العمل الفرنسي والدكتوراه الفخرية عن مجموعة أعماله التي رسمها..
سمير إليوفيتش ونزار قباني:
لسمير إليوفيتش علاقات صداقة ومودة ومعرفة مع العديد من الشخصيات السورية من فنانين وأدباء وشعراء وساسة ورجال دين، منهم الشاعر نزار قباني، وكان نزار دائم الزيارة لسمير في بيروت حين أقام استوديو قرب الجامعة الأميركية اسمه مارتينين، ونشأت بين الفنان والشاعر صداقة متينه وكتب ذات يوم الشاعر نزار يمدح الفنان سمير: «الشعر يكتب بطرق مختلفة، بعضهم يكتب بأصابعه كالشاعر والموسيقي، وبعضهم يكتب بصوته كالعصفور، وبعضهم يكتب بعينيه.. شفتيه.. كالمرأة الجميلة، وبعضهم يكتب دون أن يكتب كالعاشق، أما أنت فتستعمل كل هذه الأساليب معاً، بحيث تعطي الصورة أبعادها الثلاثة: الشعرية واللونية والصوتية، كنا نظن من قبل أن الكاميرا لا تكتب الشعر، لكّن نظرة واحدة على هذه اللوحات الرائعة، كافية لتكرسك شاعراً طليعيا تحولت الكاميرا بين يديه إلي قصيدة – نزار قباني بيروت 26/5/1975».
و بعد:
اشتهر عن عائلة إليوفيتش بدمشق، أنها عائلة سورية أصيلة على الرغم من أصولها اليونانية فالعشق بين أثينا ودمشق عشق عريق حضاري، وأثينا ودمشق تاج مدن الحضارات السبع.. عائلة إليوفيتش عائلة كبيرة منتشرة في العديد من دول العالم، ومنها سورية ولبنان واليونان، الأب أنطون إليوفيتش وضع بصماته الذهبية على أهم معالم وأوابد دمشق التي لم تزل ماثله حتى الآن.
وعائلة إليوفيتش المقيمة في أثينا يعتز أبناؤها أنهم أبناء سورية، والفنان الابن سمير إليوفيتش واحد منهم جال العالم ووضع بصماته الناصعة على مسيرة الفن، وسطر اسمه بماء الذهب في سجلات الفن التشكيلي وحط به الترحال الآن في أثينا في بيت عريق على الطراز اليوناني- الدمشقي مع زوجته اليونانية التي تتقن اللغة العربية أيضاً «تزوج في 20 كانون الثاني عام 1978م». منزله في أثينا تزينه لوحات فنية رائعة تدل على عراقة الفنان، وتزين بعض أركانه التحف الدمشقية..
أنطون وسمير إليوفيتش يونانيّا الأصل سوريّا الهوى والعشق، نسيناهما ونسينا سيرتهما الفنية وبصماتهما على الفن السوري وعلى الأوابد الدينية والتاريخية بدمشق.