ثقافة وفن

سمات شعر الوحدة بعد عهدها … عبد الوهاب الشيخ خليل سار في منعطفات الوحدة وبقي مخلصاً لها

| د. راتب سكر

أثَّرتْ مجريات سنوات الوحدة السورية – المصرية منذ قيامها التاريخي عاصفة بالهتافات في 22- شباط من عام 1958، في مواقف كثيرين من الأدباء والمثقفين من قضايا الأدب والحياة وتوجهاتهم اللاحقة في رؤية الوجود والعالم.

كان الشاعر عبد الوهاب الشيخ خليل (1926- 2018)، قد عرف في مرحلة النشأة والشباب، بحماسته في عقد الخمسينيات للنائب والوزير والسياسي المعروف رئيف الملقي (1900-1988)، فكان شاباً مشاركاً نشطاً ذا توجهات فردية في حملات المرشح المستقل الانتخابية ونشاطاته الاجتماعية، وسَرْعَان ما حمل عهد الوحدة الجديد تغيرات واسعة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فسارت في منعطفاتها الكبرى، مؤثرة في مواقف كثيرين من الأدباء والمثقفين والمشتغلين في الشأن العام، فبدا أن رئيف الملقي الشخصية المستقلة خارج الحياة الحزبية، الذي غدا عضواً في مجلس الأمة في الجمهورية العربية المتحدة، قد اختار مع بلوغه الستين وضع حد لنشاطه البرلماني والسياسي المتنامي منذ الثلاثينيات مانحاً اسمه بريقاً خاصاً منبثقاً من علاقاته التاريخية المتميزة بالتيارات الوطنية والشعبية في حماة، متوجة بمكانته التي تبوأها في دولة الوحدة، واستمرت دلالاتها مؤثرة في علاقته المميزة بالرئيس جمال عبد الناصر، على حين ربط مريده الشاعر الشاب عبد الوهاب الشيخ خليل (وهو أصغر من رئيف الملقي بنحو خمسة وعشرين عاماً) مصيره نهائياً، بالتيارات الوحدوية الوليدة من رحمي زمني الوحدة والانفصال، مكتفياً من صديقه النائب والوزير القديم، الذي رافقه مريداً متحمساً لسنوات، بالسكن العابر إلى مودَّاته، من حين إلى حين، في مقاهي حماة، بعد أن غدت أحاديث الذكريات ملاذاً وديعاً لكليهما، يحلها رئيف الملقي محل انغماسه الناري القديم في الصراعات الاجتماعية والسياسية، ويراها مريده الشاب محطة صداقة حميمة على دربه الجديد الذي فتح آفاق وعيه الاجتماعي خارج بيئته في حماة ورموزها السياسية والاجتماعية، على جلالة تأثيرها في وجدانه.

كتب عبد الوهاب الشيخ خليل في أوراق مذكراته، متحدثاً عن هذه المرحلة من علاقته به، قائلاً: ممن كان يرتاد هذا المقهى (مقهى عبود، كان يقع مقابل بناء «الموقع» الحالي) الأستاذ رئيف الملقي رحمه الله، وهو من أوائل زعماء الكتلة الوطنية في حماة الذين قاوموا الفرنسيين، ومثَّل حماة في المجلس النيابي دورات عدة، وتقلد وزارتين خلال حياته، وكنا نتحلق حول طاولته في هذا المقهى كل يوم، ولمدة زمنية طويلة، أنا والشاعر سعيد قندقجي رحمه الله، وأحياناً يكون الشاعر عدنان قيطاز مدَّ الله في عمره والشاعر محمد حيدر وهو من جبلة.

تنوعت مواقف الأدباء والمثقفين من حادثة الانفصال في 28 أيلول من سنة 1961، وانفصام عرى دولة الوحدة «الجمهورية العربية المتحدة»، بعد مرور ثلاثة أعوام وسبعة أشهر على قيامها، كما تنوعت مواقفهم على دروب قيامها ومساراتها، ومن الراجح أن الوقوف على نماذج من قصائد عبد الوهاب الشيخ خليل في هذا المضمار، مفيد لتلمس اتجاهات تلك المواقف.

لقد غدا الانفصال جرحاً نازفاً في صدره الطري، وغدا الحلم بانبعاث الوحدة العربية هاجسه المؤرق الأساس، حتى إذا لاح مشروع دولة الاتحاد بين سورية ومصر وليبيا في عام 1971، وأقام المركز الثقافي العربي في حماة مهرجاناً شعرياً بالمناسبة، شارك عبد الوهاب الشيخ خليل فيه بقصيدة عنوانها: «مع الحدث الكبير» مطهِّراً بأبياتها ما علق بروحه الوثابة إلى الخير والجمال والحق، ما علق بيقين بياضها من تداعيات مآل الوحدة وأسى انفصالها، قائلاً (وقد مضى على الانفصال نحو عشر سنوات):

«بعد الجراح التي أدمت حشاشتنا
يحقق الشعبُ أمرًا رائدًا جللا
حتى أطل هلال الاتحاد على
أرض الإباء فقلنا: مرحبًا وهلا
يقول: ويحك أين الشعر تبدعه
أما سمعت؟! فليل الانفصال جلا»

ترسَّخَ موضوع الوحدة متنامي المؤثرات في وجدانه وشعره مع تتالي السنين، وتعمَّقتْ دلالاته موضوعاً مركزياً هاجساً في شعره بإشعاعات أسيانة وخاصة منذ انفصال إقليمي الجمهورية العربية المتحدة الشمالي (سورية) والجنوبي (مصر)، فلا يخفف من أساه، ويستبدل به «رفيف جناح يختار النجوم ويقطف»، إلا سماعه خبر مشروع وحدوي جديد، أو ذكره اسم مصر أو رموزها، فتنبعث في شعره إشعاعات فرح جميل يلون قصائده بالصور الأدبية المعبرة، بمثل قوله في قصيدة كتبها عام 2001 بعنوان «طائر النيل»:

«أتاني على جنح الأثير يرفرف
رسول من النعمى، أرقُّ وألطفُ
وهاج شعوري بالرفيف جناحهُ
فأمسيت أختار النجوم وأقطفُ
تضمخ من عطر الكنانة ثوبهُ
ومن عطرها تزكو النفوس وتشرُفُ
ومن عطرها أحلام قلب مولّه
يذوب لدى الغيطان عشقاً وينزفُ»

عبد الوهاب الشيخ خليل الذي لم يزر مصر في حياته، عاش مترنما بنجومها ونيلها وغيطانها، رمزاً لحنينه إلى قيم الوحدة الضائعة، أو المضيعة، فيكتب قصائد تفيض لوعة وحنينا، حتى إذا ألقى مثل قصيدته «طائر النيل» من منبر ثقافي، وجدته عندما يصل إلى قوله: «أحلام قلب مولّه يذوبُ»، يهل في عينيه الحادبتين برق خاطف، ويرده صوت ذو ودادٍ مبين من القاعة الواسعة: «سلامة قلبك يا أبا الخير».

يعدِّل جلستهُ باعتداد عندما يتحدث عن قصيدته في استشهاد البطل عبد المنعم رياض (أحد أبرز رموز الكفاح العربي سياسياً وعسكرياً في الستينيات)، مستدعياً إلى مساحات الكلام بث إذاعة صوت العرب من القاهرة لهذه القصيدة وما كتبته عنها الدكتورة زاكية رياض – أخت الشهيد – الأستاذة في جامعة عين شمس. كانت هذه الصورة تفيض في صدري الصغير بالعبر، كلما عبرت ساحة «عبد المنعم رياض» الشهيرة في وسط القاهرة، طوال أشهر إقامتي فيها عام 2006، أستاذاً زائراً في جامعتها، وعندما أتيت على ذكر تلك القصيدة في محاضراتي المتواضعة عن الأدب المعاصر، في كليات الآداب من جامعات القاهرة بني سويف، وطنطا، وغيرها.. علق عليها عدد من أساتذتي وإخواني الكتاب هناك (مثل د. عبد المنعم تليمة، ود. مي يوسف خليف، ود. صلاح الدين حسنين وغيرهم) تعليقات جديرة بوقفات خاصة.

القصيدة من بحر الكامل مؤرخة بتاريخ 12-3-1969، تحمل إشارات متنوعة إلى عمق ارتباط الشاعر – في مرحلة أواخر الستينيات من القرن العشرين- بالتيارات الوحدوية والقومية النهضوية التي كان الشهيد عبد المنعم رياض يمَثِّل رمزاً نقياً من رموزها القابضة على الجمر في غمرة الهزائم والانكسارات، متوجاً باستشهاده الشجاع قيمَها النبيلة. ومن تلك الإشارات ما تضمَّنَه عنوان القصيدة في عتبته النصية من حماسة الشاعر لاسم الشهيد الذي يرثيه وشخصيته، بقوله: «مرثية القائد عبد المنعم رياض طيب الله ثراه»، هذه الحماسة التي تؤكد موقع رياض من وجدانه وقلبه، في قوله:

«أنا ما رثيتك بالقريض وإنما
بنجيع خافقيَ الجريح رثائي»

شعره سجل حافل يعكس ما في مرايا وجدانه، ومواقفه من أحداث عصره، ومن الراجح أن قضية الوحدة العربية قد ظلت من أهم ينابيع المؤثرات الفاعلة في شعره ووجدانه.

الشاعر عبد الوهاب الشيخ خليل رحل عن دنيانا الفانية سنة 2018، وترك قصائده شهادة على زمنها وجدانياً واجتماعياً وفكرياً وفنياً، جديرة بدراسات جادة متنوعة وافية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن