قضايا وآراء

البندقية في أوكرانيا والهدف خارجها

| منذر عيد

قالت صحيفة «نيويورك تايمز» في تشرين الأول 2020: «من بدايات القرن 21، إذا كانت هناك أي قوة سعت للهيمنة على العالم وقسر الآخرين وانتهاك القواعد، فهي الولايات المتحدة»، وسبق ذلك عام 2018 تأكيد داكوتا وود، الباحث المتخصص في برامج الدفاع بمركز الدفاع الوطني التابع لمؤسسة التراث الأميركية، بأنه «كل 15 عاماً أو نحو ذلك، تدخل الولايات المتحدة في صراع».

وفي أتون حديثنا لا نريد سرد جملة الحملات العدوانية التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية هنا أو هناك، لنذهب مباشرة إلى حدث الساعة وهو أوكرانيا، وما يجري من تحشيد أميركي-غربي لقصص وسرديات عن هجوم روسي وشيك مزعوم لاحتلال ذاك البلد، وتضخيم الأمور وتهويل الأوضاع، والحديث عن ساعة الصفر لشن موسكو هجوماً على كييف، وكل ذلك لاستجلاب غيوم الحرب، وفي واقع الأمر فإن الأجواء بخلاف ذلك، وهي غير مؤهلة لتشكيل تلك الغيوم لتمطر رصاصاً كما تمني النفس كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا، حيث ادعى جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جو بايدن، وهو قائد هذه الرواية الأميركية، أن موسكو قد تغزو جارتها مرة أخرى في وقت قصير جداً.

تجد وسائل الإعلام على مختلف أنواعها صعوبة في الأيام الأخيرة في اللحاق بتصريحات المسؤولين في أميركا والغرب الأوروبي، وحديثهم عن أوكرانيا والتهديد الروسي المزعوم، وبات انشغال قادة تلك الدول بأوكرانيا أكثر بكثير من انشغالهم بشؤون بلدانهم الداخلية، التي تعاني تهالكاً اقتصادياً وتراجعاً في شعبية الأحزاب الحاكمة، وهنا يكمن سبب ذاك الانشغال، وتحولهم إلى «ملوك أكثر من الملك»، حيث لا نجد تلك القراءة في احتمال شن موسكو هجوماً على كييف عند قادة أوكرانيا، وهم المعنيون أكثر من غيرهم بما يجري، وأدرى بشعاب بلادهم، بل إن حجم التهويل الغربي، دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي سمع كلاماً غربياً وكأن « T-90» باتت على مشارف قصره الرئاسي، إلى القول إن التحذيرات من غزو روسي وشيك لبلاده تثير الهلع، مطالباً بدليل قاطع على هجوم مخطط له.

من المؤكد أن ما يسمع في أجواء أوكرانيا هو قعقعة تصريحات وروايات، أكثر مما هي قرقعة سلاح، أهدافها أبعد من غيرة أميركية- أوروبية على حليفهم الأوكراني، فالقصة تبدأ من كون تلك البلاد جارة لعدو لدود وهي روسيا، ويمكن اتخاذها نقطة إزعاج لموسكو، واستثمارها ورقة ضغط في مواجهات اقتصادية قادمة، حول أمور سياسية أخرى خارج تلك الحدود، أو في مفاوضات مستقبلية حول الغاز، دون تجاهل أن السبب الرئيس في تصعيد قادة كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا والتهويل بحرب بات على أسوار كييف، هو لفت نظر الداخل في تلك البلدان عما تشهده بلدانهم من أزمات داخلية، نحو أزمة خارجية، تحاول تلك الدول تشكيل رأي عام داخلي وعالمي إزاء أوكرانيا.

في مواجهة السرديات التي ساقتها الدول الأوروبية وأميركا حول التهديد الروسي المزعوم، من المنطقي أن نورد سبب انتهاجهم تلك السياسة ضد روسيا وتضخيم ما يجري على تخوم أوكرانيا، فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته كل من «رويترز» و«إبسوسي» يومي 19 و20 كانون الثاني الماضي، هبوط شعبية الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أدنى مستوى خلال فترة رئاسته، وبين أن 43 بالمئة من الأميركيين يؤيدون أسلوب بايدن، في حين يرفضه 52 بالمئة، فيما لم يكن الباقون متأكدين من موقفهم، وذلك مع معاناة أميركا في الفترة الحالية من أعلى معدل تضخم خلال الأربعين سنة الماضية.

الحال ذاتها بالنسبة إلى بريطانيا، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «يوغوف» في كانون الأول الماضي تراجع شعبية رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى أدنى مستوياتها منذ توليه منصبه، وانخفاضها 11 نقطة منذ منتصف تشرين الثاني الماضي لتستقر عند ناقص 42، وكذلك لم تكن شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أفضل حالاً، حيث أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة «إيفوب» لمصلحة صحيفة «جورنال دو ديمانش» أواخر الشهر الماضي، أن نسبة تأييد ماكرون تراجعت إلى 37 بالمئة في كانون الثاني الماضي مقابل 41 بالمئة قبل شهر واحد، في حين ارتفعت نسبة المعارضة ضده إلى 60 بالمئة وذلك وقبيل أقل من ثلاثة أشهر على إجراء الجولة الأولى من الانتخابات في البلاد.

من المؤكد أنها رصاصة الحرب الطائشة، وإن أصابت مبتغاها، وقد تنجح أميركا والدول الغربية في جر روسيا وأوكرانيا إلى حرب، وهو أمر مستبعد، عبر سلسلة استفزازات وحركشات يقوم بها حلف «الناتو» ضد القوات الروسية أو الحلفاء لها، لكن من الواضح والجلي أن الخاسر الأكبر سيكون أوكرانيا وشعبها، وهو ما يعيه جيداً رئيسها بقوله: «إذا كان لدى أي شخص معلومات إضافية حول احتمال حدوث غزو بنسبة 100 بالمئة فليزودنا بها».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن