قضايا وآراء

عن الأزمة الأوكرانية

| عبد المنعم علي عيسى

بدخول الأزمة الأوكرانية شهرها الثالث تبدو هذي الأخيرة أكثر غموضاً لجهة نيات الأطراف الداخلة في الصراع، وخصوصاً منها النيات الروسية التي نجحت موسكو حتى الآن في إخفائها، على الرغم من أنها اعتبرت علانية أن دخول كييف حلف شمال الأطلسي يمثل تهديداً مباشراً لأمنها القومي الذي ما انفك الغرب يعمل على زعزعته، تارة بتوسعة تمددات الحلف شرقاً، وطوراً عبر دعم «الثورات الملونة» التي غالباً ما كانت عجلاتها تدار بأذرع غربية كعامل دفع يرمي إلى إيصال حكومات للسلطة في بلدان كانت حتى الأمس القريب تنضوي تحت لواءات الكرملين التي لم تكن الصواري التي ترتفع فيها مقتصرة على الجغرافيا سابقة الذكر، وفي ذاك مسعى بالغ الدلالة لجهة تجاهل مقتضيات دولة ترى نفسها عظمى، على حين أن الغرب لا يريد الاعتراف بها حتى كدولة إقليمية كبرى لها الحق في رسم الحدود التي يبدأ عندها أمنها القومي وأين تنتهي.

تختلف الأزمة الأوكرانية البادئة قبل نحو ثلاثة أشهر في طبيعتها، وفي المآلات التي يمكن أن تؤدي إليها، عن كل الأزمات التي شهدها المحيط الروسي منذ تفكك عقد الاتحاد السوفييتي أواخر العام 1991، وهي لا تشبه بالتأكيد الأزمة مع جورجيا التي تفجرت حرباً صيف العام 2008، ولا تشبه أيضاً حالة ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، كما وتختلف عن الأزمة المندلعة بين أرمينيا وكازاخستان خريف العام 2020 والتي فضلت موسكو أن تظل طرفاً غير مباشر فيها على الرغم من الآثار السلبية التي أفضت إليها تلك الأزمة على المصالح الروسية، فهي، أي الأزمة الأوكرانية الراهنة، وفقاً لطريقة التعاطي الروسي معها، ثم تبعاً لردود أفعال الغرب الساخنة التي جاءت بشكل شبه إجماع غربي على مد كييف بأسلحة متطورة لا تقل كفاءة عن تلك التي يمتلكها الحلف، وصولاً إلى نشر قوات يمكن لها القيام بمهام الدفاع والهجوم على مناطق واسعة من أوروبا الشرقية، تشير إلى أن كلاً من طرفي الصراع، أي روسيا والغرب، يراها مفصلية في المواجهة التي بانت تباشيرها منذ وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة في بلاده أواخر العام 1999، فالأخير جاء من صلب جهاز الاستخبارات الذي بقي، وحده من بين كل المؤسسات، متماسكاً في مواجهة زلزال التفكك وغروب الشمس السوفييتية، وفي مواجهة «الذيلية» التي تمثلت بسني بوريس يلتسين الثماني العجاف، وفي كلتا المرحلتين استطاع، ذلك الجهاز، المحافظة على توازنه الذي مكنه من احتواء الزلزال ثم الخروج لتبيان حجم الدمار وصولا إلى استشراف الرؤى الكفيلة بإعادة البناء من جديد.

قبيل بدء الأزمة، وفي أتونها، راح «القيصر» يستجمع أوراق القوة التي بين يديه، ثم يرنو إلى تلك التي تؤدي فعلاً نقيضاً لهذا الفعل الأخير، ففي الأولى اندفع نحو تعميق شراكته الإستراتيجية مع الصين، حيث شهد لقاؤه بنظيره الصيني 5 شباط الجاري على هامش افتتاح أولمبياد بكين صدور بيان مشترك كان واضح اللكنة والمفردات لجهة تراصف بكين في خندق واحد مع موسكو في صراعها الراهن مع الغرب، بل إن البيان ذهب إلى تأييد روسيا في شعارها «أمن واحد لا يتجزأ» الذي استندت إليه للمطالبة بانسحاب الحلف الأطلسي من محيط الاتحاد الروسي، واللافت هو أن مصادر غربية عدة كانت قد أشارت إلى أن التوافق الحاصل في أعقاب لقاء الرئيسين الصيني والروسي كان قد تضمن أيضاً تعهداً صينياً بسد احتياجات موسكو المالية إذا ما اتسعت رقعة الصراع، أو طال أمده، في الوقت الذي أشارت فيه تلك التقارير إلى أن الخزينة الروسية تراكم اليوم فائضاً للنقد الأجنبي بلغ شهر كانون الأول من العام المنصرم 630 مليار دولار.

وفيها أيضاً، أي في أوراق القوة، يرى «القيصر» أن واشنطن في لحظة ضعف فارقة يمثلها وجود رئيس «ضبابي» الرؤية وهو نفذ انسحاباً فوضوياً من أفغانستان آب 2021 لربما لم تتضح بعد تداعياته على مفاصل السياسة الأميركية بعد، أما خياراته التي ذهب إليها في بناء التحالفات فكانت، أقله على المدى القصير، من النوع المزعزع للتحالف الغربي التقليدي المنضوي في إطار «الناتو»، فتحالف «أوكوس» الموقع بينه وبين بريطانيا وأستراليا العام الماضي كان له من الردود على ضفاف الغرب المستبعد ما يوحي بنعي هؤلاء لذلك التحالف الذي لم يكن ينقصه الكثير لكي يتكشف وهنه، ناهيك عن أن الوازنين في المستبعدين يبدون اهتماماً واضحاً بدواخل كياناتهم أكثر مما يجري في خوارجها، فألمانيا التي انخرطت في سياقات التخلي عن الطاقة النووية سيصبح لزاماً عليها الاعتماد أكثر على الغاز الروسي، أما فرنسا فتبدو اليوم مهتمة بانتخاباتها المقبلة التي إذا ما جاءت وفق رتم الأخيرة التي أوصلت للسلطة رئيساً عارياً عن دعم حزب سياسي كبير، فإن ذلك سيرسخ مساراً من شأنه أن يحدث انعطافاً في مسار الحياة السياسية للفرنسيين، أما بريطانيا فكبرى اهتمامات الشارع فيها تتجه نحو رصد فيروس «كورونا» وتحوراته، حتى أن شريط فيديو لبوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، ظهر فيه مخالفاً لقواعد الوقاية من الفيروس كاد أن يحدث هزة سياسية في البلاد لولا التأكد من أن الشريط قديم وهو يعود لما قبل ظهور هذا الأخير للعلن في الشهر الأخير من العام 2019.

نقطة الضعف الأهم التي تتحسب لها موسكو راهناً هي التحولات التي يمكن أن تطرأ، وخصوصاً إذا ما أغلقت سراديب السياسة، على الموقف الأوروبي الذي تتنازعه ثنائية يجد نفسه فيها أقرب إلى موسكو اقتصادياً (احتياج الغاز)، وأقرب إلى واشنطن أمنياً التي لا تزال إستراتيجياته الدفاعية تعتمد في قوامها على المظلة النووية الأميركية، فيما أطراف الصراع، كلهم، مدركون لحقيقة تقول إن اليوم الذي تطأ فيه القدم الروسية للأراضي الأوكرانية سيعني عودة بالزمن إلى الوراء ثلاثين عاماً، أي العودة إلى نظام القطبية الثنائي الذي ساد العالم 1945 – 1989.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن