حطين.. وسعيد تحسين أحد روّاد الفن التشكيلي السوري … روح كلاسيكية وبراعة في التناول والصورة والحكاية … بؤرة الضوء في قلب المشهدية التي يحوكها الفنان
| سعد القاسم
جرى الحديث في الحلقة الماضية عن لوحة (معركة حطين) لتوفيق طارق وكيف أنها اكتسبت شهرة عالمية إثر استفسار الإعلاميين والسياسيين الذين شاهدوها في قاعة القصر الرئاسي. وفي الواقع أن شهرة هذه اللوحة هي سياسية لا فنية – إن صح التعبير – ذلك أن الرئيس حافظ الأسد كان يجد في هذه الاستفسارات فرصة لعرض وجهة النظر العربية من الغزو الاستيطاني الغربي بدءاً من حروب الفرنج، أو الفرنجة، (كما يسميها المؤرخون العرب المعاصرون لها) وصولاً إلى إقامة الكيان الصهيوني، وبالتالي فإن ما تحدث عنه هؤلاء الإعلاميون والسياسيون هو رؤية الرئيس المفسرة للوحة، لا اللوحة ذاتها. لذا يندر أن نجد في المراجع الأجنبية صورة لها، بخلاف لوحة تحمل الاسم ذاته (معركة حطين) صورها الفنان الرائد سعيد تحسين (1904- 1985) وهي محفوظة اليوم في المتحف الوطني في دمشق. ويُطلق عليها أيضاً اسم (صلاح الدين الأيوبي) تتسم هذه اللوحة التي أنجزت عام 1954 بروح كلاسيكية في بنائها، وإضاءتها، ووضعية الأشخاص فيها. وتصور القائد التاريخي في خيمته – المنصة إثر انتصاره في معركة حطين، محاطاً بقادته يتقبل استسلام القادة والجنود الفرنج، وإلى جواره يجلس منكسراً الملك الفرنجي الأسير (غي دي لوزيان) على حين يصطف فرسان صلاح الدين وجنوده المنتصرون على جناحي الخيمة بمهابة وانتظام.
أكثر اللوحات انتشاراً
قد تكون لوحة سعيد تحسين هذه أكثر اللوحات العربية انتشاراً، فهي ترفق، مصحوبة باسم الفنان، مع الكثير من المواضيع الغربية التي تتناول حروب الفرنج بنهج علمي، أو من وجهة نظر معتدلة ترد أسباب الهزيمة في حطين إلى الكونت (رينالد دي شاتيون). أو (أرناط) كما أسماه المؤرخون العرب، وقد كان يتصف بسمعة سيئة فلم يتردد في قتل وسرقة واغتصاب ليس المسلمين فقط، ولكن أيضاً اغتصاب المسيحيين، وقاد هجوماً دموياً على قبرص المسيحية (البيزنطية) وعلى المناطق الأرمنية، إضافة إلى مهاجمة قوافل الحجاج المتجهة إلى مكة المكرمة ونهبها وقتل وأسر من فيها، كما قام بمغامرة عسكرية واسعة النطاق لاحتلال مكة نفسها. انتهت بقتل وأسر رجاله، وقطع رؤوس بعضهم علانية في القاهرة، ورجم مجموعة أخرى بالحجارة ضمن مناسك الحج. في وقت لاحق خرق دي شاتيون الهدنة المؤقتة بين صلاح الدين والفرنج بمهاجمته قافلتين ونهبهما، وأدى دعم ملك القدس (غي دي لوزيان) له إلى المجابهة في معركة حطين، حيث أبيد جيشهما المشترك، ووقع كلاهما في الأسر، ومن ثم قطع رأس دي شاتيون على يد صلاح الدين.
لحظة إعدام (دي شاتيون) كانت موضوع لوحات عدد من الفنانين الغربيين، سواء من المؤيدين له، أم المعترضين على جرائمه. على حين اختار سعيد تحسين مشهداً آخر لا يهتم بإعدام اللورد الخائن، وإنما يظهر المعاملة الحسنة التي يلقاها الملك الفرنجي الأسير من القائد المنتصر، وفق ما تورد المصادر التاريخية.
المتحف الوطني يحفظ أهمها
يمكن القول إن مجموعة لوحات الفنان سعيد تحسين التي يحتفظ بها المتحف الوطني في دمشق هي أهم مجموعات ما قبل الخمسينيات، بحكم قيمتها الفنية والتاريخية، وعددها، ومكانة صاحبها الذي يمثل حالة على درجة عالية من الخصوصية في تاريخ الفن التشكيلي السوري، ذلك أن سيرة سعيد تحسين الحياتية، وتجربته الإبداعية كلتاهما ما يستحق التوقف عنده طويلاً. وهو ما سنعود إليه لاحقاً. غير أن لوحة له في المتحف الحربي تمثل قيمة نادرة وهي لوحة (الاعتداء على المجلس النيابي). إذ لم تعرف لوحة سورية من وفرة الاستشهاد بها ما عرفته تلك اللوحة، ففي كل مرة يطل بها التاسع والعشرون من أيار (مايو) مصطحباً معه ذكرى الهجوم الوحشي الذي نفذه الجيش الفرنسي على مبنى البرلمان السوري، لا يجد العاملون في الإعلام بحوزتهم سوى صورة اللوحة التي رسمها الفنان الرائد سعيد تحسين في عام الجريمة ذاته (1945)، لترافق موادهم الصحفية والتلفزيونية.
وثائق لإدانة المستعمر
ويذكر الفنان غازي الخالدي في كتابه عن سعيد تحسين أن هذه اللوحة قد طبعت حينذاك ووزعت كوثيقة إدانة لفرنسا، وبذلك فهي قد قامت بالدور التسجيلي الذي كان منوطاً باللوحة التشكيلية قبل ظهور آلة التصوير الضوئي التي حملت عن الفن التشكيلي هذه المهمة، وأطلقت حريته في مجال الإبداع والابتكار. أما لماذا أخذت لوحة مرسومة هذه الوظيفة التوثيقية في زمن عرف فيه التصوير الضوئي واستخدم على نطاق واسع؟ فالسبب ببساطة هو عدم نشر أي صورة (فوتوغرافية) عن الجريمة، على حين أن كتاباً صدر عن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية قد ضم صوراً مروعة للجرائم التي ارتكبها الفرنسيون حين كانوا يسوقون الفلاحين الأبرياء من بيوتهم في غوطة دمشق لإعدامهم في ساحة المرجة، لكن تلك الجرائم كانت تسوغ بادعاء أن الضحايا هم محاربون ضد قوات الاحتلال، لكن كيف يمكن تسويغ اعتداء على برلمان بوساطة جيش دولة تتشدق بالديمقراطية ومبادئ ثورة الحرية والعدالة والمساواة؟
ربما يفرج يوماً عن صور جريمة البرلمان حين يكون القرار بيد جهة تناهض الفكر الاستعماري كما حدث حين كشفت الثورة الروسية وثائق سايكس- بيكو ومؤامراتها على العرب ومستقبلهم ووحدة بلادهم.
معالم البقاء في لوحة الذكرى
وبالعودة إلى اللوحة فقد اختار سعيد تحسين أن يشغل مبنى البرلمان القسم الأعظم منها شامخاً بعمارته العربية الأنيقة ولونه الأبيض، مظهراً بذلك التناقض الحاد بين ما يمثله من رمز وطني وحضاري، وبين همجية المعتدي المتمثلة في رشاشاته ومدافعه وطائراته المحيطة بأطراف اللوحة والمبنى بآن واحد، على حين تتركز بؤرة الضوء في قلب المبنى واللوحة بفعل انفجار القنابل.
ثمة لوحة ثانية لسعيد تحسين من التاريخ الحديث على درجة عالية من الأهمية وهي لوحة (المجاعة) التي تصور مشهداً متخيلاً من شوارع دمشق أثناء المجاعة التي عاشتها خلال الحرب العالمية الأولى (السفر برلك). في عمق اللوحة تبدو ساحة المرجة في دمشق، والمشانق التي نصبها جمال باشا السفاح لشهداء السادس من أيار عام 1916.