من دفتر الوطن

متحضرون مجرمون!

| حسن م. يوسف

لم يكن ما رأيته كابوساً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان مقطع فيديو يشبه مئات المقاطع التي تنشر يومياً على اليوتيوب وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك الفيديو كان بالنسبة لي أشد وطأة وأكثر إزعاجاً من كل الكوابيس التي رأيتها خلال السنوات الماضية.

بدأت القصة عندما قرر المجلس العسكري في جمهورية مالي الإفريقية، قبل ثلاثة أسابيع، طرد السفير الفرنسي جويل ميير من البلاد خلال مدة أقصاها 72 ساعة، بسبب إدلاء مسؤولين فرنسيين بتصريحات «معادية» لمالي. وقد انزعج سكان إحدى القرى الفرنسية، لقيام حكومة مالي بطرد سفير بلادهم، فألقوا القبض على شاب من مالي، وطرحوه أرضاً في ساحة قريتهم، ثم راحوا يتناوبون التبول عليه رجالاً ونساء!

الأكثر صدماً في الأمر هو أن أولئك الفرنسيين (المتحضرين) الذين بشرنا أجدادهم، بشرعة حقوق الإنسان، وأناروا عالمنا بقيم الحرية والإخاء والمساواة، كانوا فخورين جداً بالشناعة التي يقومون بها، حيث لم يمانعوا في أن يتم تصوير أعضائهم المكشوفة وهم يتبولون على الرجل المالي المسكين!

لم يجر هذا الحدث المريع خلال تجارة العبيد في أوروبا خلال العصور الوسطى قبل أكثر من خمسة قرون، بل جرى في مطلع الشهر الثاني من هذا العام 2022!

صحيح أنني لم أر الفيديو سوى مرة واحدة، لكن ذاكرتي البصرية اللئيمة راحت تستعيده المرة تلو الأخرى، وعقب كل استعادة كانت ذاكرتي تردد العبارة التي أوردها ممدوح عدوان في مقدمة كتابه «حيونة الإنسان»، الذي صدرت طبعته الأولى عام 2003. فقد رأى ممدوح أن هذا العالم »… لا يصلح للإنسان، ولا لنمو إنسانيته. بل هو عالم يعمل على «حيونة» الإنسان (أي تحويله إلى حيوان).

يتظاهر الأوروبيون بأنهم أرباب الحضارة ودعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنهم يستخدمون هذه المفاهيم الطنانة للتغطية على عمليات النهب الإجرامي التي يمارسونها ضد الشعوب. والمضحك في الأمر هو أنهم يمارسون نهب خيرات تلك الشعوب، ثم يقدمون الفتات لأبنائها متظاهرين بالإحسان وخدمة الإنسان.

قبل فترة قرأت مقالاً عن عمليات النهب المنهجية التي كانت بلدان القارة الأوروبية العجوز، وعلى رأسها فرنسا، تمارسها ضد البلدان الإفريقية، فقد قال فرانسوا ميتيران قبل أن يتقلد منصب الرئاسة الفرنسية لأول مرة: «من دون إفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الحادي والعشرين».

وفي عام 2008 صرح الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك: «دون إفريقيا ستنزلق فرنسا إلى مرتبة دول العالم الثالث». ففرنسا تنهب الخشب من الكونغو برازافيل، وتنهب الحديد من موريتانيا والجزائر، واليورانيوم من النيجر وتشاد، والكوبالت من الكونغو، والكاكاو من ساحل العاج، والعطور من جزر القمر، والذهب من مناجم مالي، والقطن من السنغال، والألماس من غينيا… الخ.

وتفيد الدراسات أن فرنسا تستخرج اليورانيوم من النيجر لتستغله في تشغيل مفاعلاتها النووية لإنتاج الكهرباء، على حين 90 بالمئة من سكان النيجر يعيشون من دون نعمة التيار الكهربائي.

ومن المفارقات المضحكة أن فرنسا تحتل المرتبة الثالثة عالمياً في احتياطي الذهب، رغم أنها لا تمتلك أي منجم ذهب، أما دولة مالي فتمتلك 750 منجماً للذهب، غير أنها لا تملك أي احتياطي من الذهب!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن