هذه الساعة من مساء السبت 19 شباط 2022، تأتي في فضاء يبدو ثقيلاً ثقيلاً، بعد أن طوى الدروب حتى جاءنا خبر رحيل الأديب وليد إخلاصي: «فتى الفتيان في حلب».
كان لصلات أبناء جيلي المهتمين بالثقافات والآداب، – مثل سعد الدين كليب ومحمد حيان السمان وغيرهما- في مراحل النشأة على ضفاف عاصي حماة، خصوصيات لا تنسى بأدبه المتنوع الثرّ، وحضوره الشخصي اللامع في النشاطات الثقافية لربوع تلك الضفاف.
أصدر اتحاد الكتاب العرب مسرحية وليد إخلاصي (1935-2022) «الصراط» عام 1976، وسَرْعانَ ما أخرجها يوسف نعمة، وقام صديقه محمد شيخ الزور (1944-2011) بدور الشخصية المحورية فيها باسم «عبد ربه»، ضمن مهرجان حماة المسرحي، بحضور مؤلِّفها الذي أثار حضوره من حلب لمتابعة عرض الافتتاح موجة من القلق الشديد لديهما، لأسباب عدة، أوَّلُها أن أخانا محمداً خرج في أثناء التدريبات عن خطوط الحوار المكتوب، مرتجلاً عبارات جديدة راقت لصديقه الخصيص يوسف نعمة، الذي يخرج المسرحية، ويشارك في تمثيلها، فتجاوب معه، ليشكلا موقفاً يضاف إلى النص، فاتِحَيْنِ أبوابَ المناقشات التي ترافق تلك التدريبات، وأشارك فيها من موقع الصديق الخصيص لهما، ومن موقع الإعلامي واللغوي المرافق للفرقة المسرحية، وتشعب الكلام على الصلات بين النصوص المسرحية وتقنيات إعدادها وإخراجها، ذلك الكلام الذي كان موضع أخذ ورد في تناول عرض الفرقة قبل زمن غير بعيد لمسرحيَّة محمد الماغوط (1934-2006) «المهرج»، تناول برز أمام ذاكرة كل منا في تلك اللحظات، مع قدوم أ. وليد إخلاصي من حلب، وهو في عزِّ سطوة حضوره الثقافي المتميِّز، ما أثار غير قليل من القلق في النفوس، من خشية ألا ترضيه التغيرات الطارئة على نصه إعداداً وإخراجاً وأداء.
مرّ العرض شائقاً صاخباً بأداء نخبة من مسرحيي حماة المعروفين، مثل مختار كعيد وكرمو «عبد الكريم» الصالح ومحمود الحمود وغيرهم، ولمّا حان وقت الحوارات التي كانت تميز مهرجانات حماة المسرحية، تحدث الكاتب وليد إخلاصي برصانة وهدوء، وهو يحمل «البايب» بيده حملاً ذا لغة خاصة، لتتتالى كلماته التي ظلّتْ ترنّ في حوارات سامعيه على مدارج السنوات بأمثولات عميقة الدلالات، وهو يقول بصوته الحلبي الدافئ: «لو أنني اطلعت على هذين الإعداد والإخراج قبل طباعة النص ونشره لأخذت ذلك بعين الحسبان».
ظهرت أمارات مسَرَّات واضحة على وجه محمد شيخ الزور ووجوه رفاقه، وهم يسمعون كلمات إخلاصي، الذي يحظى بمودات معرفتهم وصداقاتهم منذ سنوات، وجاء في تلك الأيام يجر خلف منكبيه سنوات طويلة من المجد الأدبي الباذخ، بعد مؤلفاته المسرحية والقصصية والروائية المتلاحقة منذ عام 1963، وقد بوأته مكانة خاصة في المشهد الثقافي السوري والعربي، ومن الراجح أن ما تشع به روحه وشخصيته من ألق إنساني مميز، أثر في خصوصية تلك المكانة.
عني عرض «الصراط»، ذلك المساء بتجربة المسرح داخل المسرح: إخراجاً وأداء، عناية خاصة، ووظفها تناغم محمد ويوسف توظيفاً فنياً متألقاً، هما اللذان خبرا في أعمالهما السابقة، قدرة هذه التجربة على منح العروض المسرحية طاقات تعبيرية مضافة ذات دلالات إيحائية واسعة وعميقة…. لقد ظل دفء حضور وليد إخلاصي وكلماته وحواراته في تلك الأمسية النوعية من حياتنا الثقافية يبث في حوارات سنواتنا اللاحقة دلالات تعليمية ونفسية لا تنسى.
استقبل إخراج سمير الحكيم مسرحية وليد إخلاصي «سهرة ديمقراطية على الخشبة» الصادرة في دمشق عام 1979، على مسرح «نادي الرابطة الفنية بحماة»، بحفاوة لا تقل عما رافق عرض المسرحية السابقة.
وعندما نظمت كلية الآداب في جامعة حماة احتفاء خاصاً به في عام 2009، تحوَّل ذلك الاحتفاء إلى مباهج خاصة رافقت استدعاءه ذكرياته مع حماة وعاصيها ومثقفيها، على مدارج الحياة، وكتبت مقالات عدة تحلِّلُ عِبَرَ ذلك النهار الذي كان رائعاً معه، ودلالاته.
يرحل هذا الأديب الكبير تاركاً مؤلفاته القصصية والروائية والمسرحية، وذكرياته المشتركة مع قطاعات واسعة من أصحاب الثقافات والفنون، كنت واحداً منهم، وما هذه الساعة إلا وقفة صاحب حزن عجلان، يخفي دمعة عين بمشاهد طمأنينة وسكينة يتركها الراحلون الكبار عادة بين أيدي مريديهم وعارفيهم.