قضايا وآراء

بيدرسون: عقدة اليوم الخامس

| عبد المنعم علي عيسى

انتظرت دمشق 65 يوماً حتى رأت نفسها جاهزة لسماع مقاربة المبعوث الأممي غير بيدرسون التي أطلق عليها «خطوة مقابل خطوة»، والتي قال عنها في مقابلة صحفية جرت معه يوم 29 كانون الأول الماضي بأنه سيقوم بشرحها في أول زيارة يجريها لها، حيث سيدفع غموض الفكرة إلى مزيد من الشكوك التي راحت تبديها الدبلوماسية السورية تجاهها، الأمر الذي دفع بهذي الأخيرة إلى تأجيل الاستماع لنغمة فيها الكثير من «النشاز» غير المستحب، لكن الضرورة تفرض، في أحايين عدة، الإصغاء لهكذا نوع من الألحان التي لا تستجيب لها الآذان ولا الروح كنوع من المجاملة، أو لسبر أغوار «النشازين» للنظر في إمكانية عودة هؤلاء إلى اللحن الذي يتوجب عليهم عزفه في النوتة، وخصوصاً أن مجمل المتغيرات الدولية والإقليمية المحيطة بالأزمة السورية تعتبر من النوع المحفز للعودة سابقة الذكر.

زار المبعوث الأممي دمشق يومي 15 و16 من الشهر الجاري، والزيارة كانت بالتأكيد وفق توقيت ساعة هذي الأخيرة التي كانت تريد تسجيل النقاط وسط مناخات ضبابية تشوب المشهد المحيط بأزمتها، فالأزمة الأوكرانية، التي لم ترتسم ملامحها بعد، توحي بأنها سوف تزيد من أعداد المتضررين من تزايد السخونة الحاصلة فيها راهناً والمرشحة لتسجيل ارتفاع في درجات حرارتها ما لم توقن اليد الروسية بأن ثمار الكرم باتت في متناولها، لكن من المؤكد أن موسكو الغد لن تكون هي نفسها بالأمس، سواء أجرى حسم الأزمة الأوكرانية سياسيا أم بالجراحة العسكرية، وكلا الفعلين ستكون لهما تداعياتهما على الضفاف السورية وإن كان الثاني منهما سيفضي إلى المزيد منها، وهذا الأخير، أي الفعل العسكري فيما لو وقع، فهو سيؤدي إلى كبح جماح الرعونة التي ما انفكت تل أبيب تمارسها على الأراضي السورية منذ ثلاث سنوات أو تزيد، والفعل سيكون ناجماً بالضرورة عن اصطفاف إسرائيلي حاصل لا محالة في الخندق الغربي الذي سيمضي نحو فرض عقوبات صارمة ضد موسكو، الأمر الذي سيدفع بهذي الأخيرة إلى مراجعة «تفاهماتها» مع تل أبيب، التي فرضتها ضرورات شديدة التعقيد، من دون أن يعني ذلك تبريراً لها، لكن فعل السياسة المرتسم في زمن طغيان المصالح بعيداً عن أي شيء آخر غالباً ما يقف طويلاً عند هذي الأخيرة فحسب، والاصطفاف المفترض آنف الذكر سوف يشكل تحولاً كبيراً في تلك المصالح التي ستشهد خلال أيام انعطافة يصعب معها استعادة جهة الدفة إلى سابق عهدها قبيل أن تحدث انعطافة من العيار عينه.

أنقرة بدورها ستكون ثاني المتضررين، فهي على الرغم من أنها نجحت في غضون السنوات الخمس المنصرمة في إمساك العصا من منتصفها ما بين «ناتو» وبين العلاقة المستجدة مع موسكو ما بعد مصالحة آب 2016، إلا أن فعل الإمساك آنف الذكر لن يكون مفيداً في سياق التراصفات الحاصلة على ضفاف أزمة مفصلية في المواجهة الروسية مع الغرب، والراجح هو أنها، أي أنقرة، ستجد نفسها مضطرة، إذا ما حمي الوطيس، إلى ميلان يدها نحو نصف العصا الغربي، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى انكماش حرية الحركة التي تمتعت بها في سورية والعراق وليبيا، والتي ما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه إلا عبر وضع جعبة المصالح في قوالب جرى الاتفاق عليها بعيد المصالحة سابقة الذكر.

بدوره كان المبعوث الأممي قد ارتأى أن السياقات التي مضى إليها الداخل السوري تبدو «مشجعة» للغوص في شروحات خطته التي قال: إنه مضى في تطويرها بعد نقاشات مطولة مع الروس والأوروبيين والأميركيين، فدمشق، وفق رؤياه، قد أثقلت بفعل تدهور الحالة المعيشية لمواطنيها، الأمر الذي يجب أن يدخل في صلب حسابات صانع القرار السياسي وفق تلك الرؤيا التي أظهرت المبعوث الأممي في خلال زيارته الأخيرة بمظهر المتلبس لدور «بول برايمر» في العراق 2004 – 2005، وهو الدور الذي نجح هذا الأخير من خلاله في إقرار «ديمقراطية المكونات» التي ما انفكت تستولد الأزمات واحدة تلو الأخرى في العراق وصولاً إلى تسجيل انفجارين متباعدين كان يمكن لهما أن يفضيا إلى تمزيق دستوره لولا تشابك مصالح إقليمية ودولية راحت تفعل فعلها لجهة المحافظة على إرث بريمر الذي سيبقي العراق في وضعية برميل بارود كتب على صفيحته «سريع الاشتعال».

في نهاية محادثاته التي أجراها بيدرسون في دمشق على مدى يومين متتاليين لم يلتقِ في خلالها الرئيس بشار الأسد، قال: إنه يأمل في انعقاد جولة سابعة لـ«اللجنة الدستورية» في غضون شهر آذار المقبل، لكن اللافت هو قوله: «لدينا اتفاق حول كيفية التعامل مع الأيام الأربعة الأولى» لكن «القضية المعلقة هو الاتفاق على كيفية المضي قدماً في اليوم الخامس»، والقول الأخير يستحضر ضبابية «الخطوة الأخيرة» التي ما زال المبعوث الأممي يخفيها في سياق خطته الشهيرة «خطوة مقابل خطوة»، وعلى الرغم من أنه أضاف: إنه «قد يكون لدينا اتفاق في اليوم الخامس» إلا أن «الأمل» هنا لا يعدو أن يكون دبلوماسياً، أو هو لإشاعة مناخات ملطفة تحيط بزيارته الأمر الذي يتيح الاستمرارية في مهمته التي قاربت على استنفاد فرص نجاحها على الأرجح، فالمؤكد هو أن الجولة السابعة التي أمل في انعقادها الشهر المقبل لن تكون إلا استنساخاً للجولات الست التي سبقتها، فعقدة «اليوم الخامس» لم تزل قائمة، وهي ستظل كذلك طالما بقيت «الخطوة الأخيرة» ورقة غير مكشوفة.

ما يمكن لحظه على النشاط الذي يمارسه بيدرسون في سياق مهمته الرامية إلى إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، هو أن الأخير يعول على الحركة التي يراها كل شيء، أما الهدف فيبدو أنه ثانوي لديه، وهذا يقود لديه إلى التكيف مع الأحداث الجارية وصولاً إلى التضحية بمصالح الدولة المنوط به حل أزمتها، وفي ذاك ملمح لتحقيق مصالح شخصية كأن يرى نفسه أميناً عاماً للمنظمة التي أناطت به تلك المهمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن