الأولى

بعيداً عن السفسطة

| بقلم: أ. د. بثينة شعبان

اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف «أن الهستيريا المتواصلة في الغرب بشأن غزو روسي لأوكرانيا مسلية ومثيرة للدهشة»، وبعد انقضاء المواعيد التي حددها مسؤولون أميركيون وبريطانيون كبار للغزو الروسي المزعوم لأوكرانيا وبعد حملات إعلامية واسعة عن نيات روسيا لشن هجوم على أوكرانيا وتجاهل كل الكلام المنطقي الذي يعبّر عنه الروس، من الواضح أن هناك أمراً ما قد لا يكون له علاقة بأوكرانيا بل بحسابات إستراتيجية أخرى استدعت هذه الحملة الغربية المحمومة على روسيا والرئيس بوتين.

التفسير البسيط: هو أن الغرب الإمبريالي المهيمن على العالم لا يحب أي قائد مستقل يدافع عن كرامة وحقوق بلده؛ فهم يريدون دولاً وقادة تابعين لهم، والأمر المهم الآخر هو أن الغرب والولايات المتحدة بالذات هي التي نكثت بوعودها كعادتها مع كل الدول ولم تحترم تعهداتها تجاه روسيا؛ ففي المباحثات لتوحيد ألمانيا عام 1990 قال وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت جيمس بيكر: «ولا بوصة واحدة شرقاً»، متعهداً بعدم زيادة أعضاء الناتو وعدم التمدد شرقاً فأين هي الولايات المتحدة اليوم من تعهداتها وهي تدق أبواب موسكو من خلال جارتها الإستراتيجية أوكرانيا؟

للذين تعبوا من سماع هذا الجدل والتفسيرات المتباينة والمتناقضة أحياناً للتصريحات الإعلامية سوف أستعرض جوهر ما ورد في جريدة «The Nation» الأميركية الذي يفسّر بطريقة ثاقبة وغير تقليدية ما يجري، والذي ربما يمكن اعتباره مقالاً يقاس عليه ما يجري في الغرب أيضاً وليس في الولايات المتحدة فقط.

بعد نقاش سريع يصل كاتب المقال إلى الاستنتاج بأن ما يجري من هستيريا إعلامية له علاقة بهوية الولايات المتحدة وليس أوكرانيا أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فالذين يدقون طبول الحرب اليوم هم أنفسهم من دقوا طبول الحرب ضد صدام حسين ووعدونا جميعاً نهاية سعيدة، ويتوقف عند فكرته الأساسية وهي أن كلّ هذه الحملة لها علاقة برؤية الأميركيين لأنفسهم بأنهم «أمة استثنائية»، ولكن كل أعمالهم وكل ما اصطنعوه من حروب وسفك دماء الشعوب الآمنة وما توصلوا إليه من هزائم كنتائج لهذه الحروب تبرهن أنهم ليسوا أمة استثنائية أبداً. وحتى تصديهم لجائحة كورونا والخسارة الكبرى التي منيت بها الولايات المتحدة تُري أنها ليست أمة استثنائية أبداً، ويضيف: «إن الحملة ضد روسيا مرجعها إلى حاجة مستميتة لإعادة إحياء مفهوم الاستثنائية الأميركية «أننا شعب اللـه المختار» وأن رسالتنا هي انتصار الحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية، كما نعرفها نحن»، ويضيف الكاتب: «أي عاقل يمكن أن يعتبر دولة قامت بغزو بلد آخر بشكل غير قانوني دولة استثنائية (العراق)؟ أو دولة خاضت حرباً لعشرين سنة وهُزمت بها (أفغانستان) دولة استثنائية؟ أو خسرت 900000 من مواطنيها خلال جائحة كورونا دولة استثنائية؟ من يعتبر دولة يمتلك فيها واحد بالمئة من سكانها ما يعادل 16 مرة ثروات 50 بالمئة من السكان دولة استثنائية؟». ويختم بالقول: «إن أزمتنا تتمثل في أننا دولة متهورة، غير كفوءة، ومشوشة بشكل عميق».

ولنضيف من ناحيتنا نحن ومن رؤيتنا لواقعنا هنا: من يعتبر دولة تحتل دولة أخرى وتنهب مواردها في وضح النهار دولة استثنائية؟ وتشعل حرباً لإغلاق المدارس والجامعات والاستيلاء على المنشآت التعليمية وحرمان مئات الآلاف من حق التعليم دولة استثنائية؟ هي استثنائية بارتكاب الجرائم ضد البشرية كالحروب وقتل الأسرى وتعذيبهم، ومثالا فيتنام والعراق يكفيان.

إذا كان هذا هو السبب الذي يقود إلى هذه الموجة المسعورة ضد روسيا، التي قد تتحول ضد أي بلد آخر ولأي سبب وبأي ظروف، فإن هذا يعني أن عالمنا اليوم في خطر حقيقي. فإذا شعر من يظنّ أنه يتحكم بقيادة العالم بأنه يفقد السيطرة والهيبة فقد يلجأ إلى أعمال تودي به وبمن يشاركونه العيش على هذه البسيطة وهنا تكمن الخطورة الكبرى.

شعور مثل هذا، مع مشاعر أخرى من القرف، انتابتني وأنا أتصفح صوراً من العنصرية الاستعمارية للدول الغربية وما ارتكبته من جرائم بحق شعوب المستعمرات باسم الحرية والديمقراطية وتفوق العرق الأوروبي الأبيض وأنهم الاستثناء بين الشعوب. سياساتهم الحالية أيضاً الراسخة في عقول وقلوب هؤلاء على كل من صدف أن لون بشرته يختلف عن لون بشرتهم بعد أن عمّموا المفهوم أن العرق الأبيض هو الأرقى والأسمى وأنه هو المتحضر والمؤمن بالحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، في حين يشهد تاريخهم على استعباد الشعوب وتدمير الشعوب الأصلية وإزالتها من وجه البسيطة.

لا أعلم كيف يمكن لأحد أن يظن أن هؤلاء المستعمرين الذين ارتكبوا كل تلك الحروب والنهب والدمار يمكن أن تكون لديهم ذرة إنسانية أو إيمان بالقيم البشرية، وقياساً على مقال «الاستثنائية الأميركية» فإن الغرب والغربيين يشعرون بأنهم متفوقون على بقية البشر، وأن هذا المفهوم يدخل في بنية تفكيرهم وتربيتهم، لذلك فهم لا يحترمون الآخرين ولا يحترمون أيضاً التزاماتهم وحتى معاهداتهم مع الآخرين.

ومن هذا المنطلق يجب أن نفهم لماذا لا يدينون الاحتلال وسرقة الأراضي والموارد، ولماذا يصوّتون لمصلحة محتلين يحتلون أرضاً ليست أرضهم وبلداً ليس بلدهم ويعملون على إزاحة السكان الأصليين والاستيلاء على أرضهم وديارهم؟ ومن هذا المنظور بالذات يجب أن نقرأ تصويتهم في الأمم المتحدة على القضايا التي تخصّ حقوقنا وبلداننا، إذ لم يكونوا يوماً بالفعل دعاة إحقاق للحقوق والانتصار للمظلوم، بل كانوا دائماً مع الظالمين، ولذلك يتمكن الكيان العنصري المحتل من قضم بيوت الشيخ جرّاح في القدس وقضم مواقع في المسجد الأقصى وقضم أرض فلسطين، في حين الدول التي تدّعي الحضارة والحرية والإيمان بالحقوق تشهد كل يوم إذلال شعب بأكمله.

أعتقد أنه لا داعي للجدل اليوم بأن العنصرية جاثمة في قلوب الذين يحاولون الاستمرار في التحكم بثروات العالم ومقدرات الشعوب، وأن الفاشية أيضاً تطلّ برأسها ضمن تيارات تخترع حرباً تلو أخرى وإرهاباً إثر آخر ووباء بعد آخر، ولكن وفي هذه المساحة الواسعة من انتقال المعلومة، وإن تكن ممزوجة بتضليل ممنهج ومستمر، على الشعوب والدول المتضررة أن تحسم أمرها وأن تثبت خياراتها وأن تكون جادة في تقييماتها، لا أن تؤخذ بما هو سطحي ومدسوس من الكلام الغربي المسيّر من الطغاة المختبئين في الحكومات العميقة من أجل خلق قناعات لا علاقة لها بالواقع ولا بحسن نية من يصدرون هذه القناعات لمواصلة استغلال الآخرين وتحقيق أهدافهم.

يجب إلا تكون تخرصاتهم بعد اليوم «لا مسلية ولا مثيرة للدهشة»، لأننا حين نكون متأكدين من الأسباب والعوامل التي تقودهم إلى هذه المسارات التضليلية يسهل علينا تفكيكها وإعداد حسن الأجوبة عنها. انظروا ما الذي استهدفوه في شمال شرق سورية: المدارس والجامعات؛ فهم لا يريدون لنا أن نقرأ ولا أن نتعلم ولا أن نعي لماذا نحن هنا وكيف يمكن أن نتجذر أكثر وأكثر في أرضنا وتاريخنا؟ ولكن هذه مسؤوليتنا نحن، وهي مسؤولية جادة ومهمة وحيوية أن نبارزهم بالعلم والفكر والأخلاق وأن نثبت لهم ولأنفسنا والعالم أننا جديرون بحياة حرة كريمة وأن السفسطة التي يصدّرونها لنا لا تعني شيئاً، فلنا معاييرنا التي نحكم بها ومن خلالها على أعمالهم وليس على ما تجود به مخيلتهم من دق طبول الحرب هنا وهناك إلى الادعاء بالاستثنائية والفوقية في مختلف تجلياتهما وتمظهراتهما.

العلم والوعي كفيلان بأن يكونا سلاحنا الأمضى في هذه المعركة التي يشتد وطيسها يوماً بعد يوم والتي ستكون المعركة الأهم والأشرس في القادم من الأيام والسنوات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن