كان اتحاد الصحفيين ينظم كل عام دورة للصحفيين المبتدئين كمحطة إجبارية للانتقال إلى العضوية العاملة، وكان الصديق والزميل الكبير قاسم ياغي عضو المكتب التنفيذي يدعوني إلى إلقاء محاضرة أمام هذه الدفعة التي ستمنح العضوية العاملة.
كان تركيزي في المحاضرة التي كنت ألقيها بشكل خاص على التخصص في العمل الإعلامي وعدم الجمع بين الثقافة والمنوعات وبين السياسة، وإذا أمكن التخصص في دائرة أصغر، كأن أتخصص في قضايا غرب أوروبا، وربما في الشؤون الفرنسية فقط أو البريطانية وهكذا.
وكنت في الوقت نفسه مقتنعاً جداً بأن الصحفي يجب أن يعرف شيئاً عن كل شيء، وأن يعرف كل شيء عن شيء واحد.
في إحدى المحاضرات سألني صحفي شاب هذا السؤال ليحرجني: أستاذ.. أنت تشدد على التخصص بأصغر دوائره، في حين أن حضرتك تكتب التعليق والافتتاحية والخبر والمنوعات والمسرحية والأفلام الوثائقية وكل أنواع الكتابات الصحفية.
أجبته: كلامك صحيح مئة بالمئة، ويبدو أنك تعرف عني الكثير، لكنك لا تعلم أنني عبقري زماني، ولأنني كذلك فأنا حر، أكتب كل ما يخطر على بالي وبالك، وعندما تصبح عبقرياً مثلي يحق لك أن تكتب ما تشاء!.
لكم أن تتصوروا ما حدث بعد هذا الجواب، فقد انفجرت قاعة صحيفة الثورة، حيث كنت ألقي المحاضرة بالضحك.
وبما أنني عبقري زماني فسوف أعترف بأخطاء كبيرة ارتكبتها في حياتي مع مرور ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن من عمري المديد، وأدعو اللـه تعالى أن يمد في عمري كي أرتكب المزيد من الأخطاء.
الخطأ الأهم الذي اقترفته هو أنني اخترت مهنة المتاعب التي أوصلتني اليوم إلى ما دون خط الفقر بدرجات، فراتبي التقاعدي يكفيني لمدة يوم واحد لا أكثر، فلا ترتكبوا هذا الخطأ أيها الشباب وتجربتي خير برهان.
مارسوا كرة القدم، على سبيل المثال، فقد أوصلت لاعباً برتغاليا اسمه كريستيانو رونالدو إلى نادي المليارديرات، والحديث عن أكثر من مليار يورو ودولار، أو مثل كليان مبابي الذي وصل راتبه الأسبوعي إلى مليون وربع المليون يورو وهو في العشرينيات من العمر!.
أنا اليوم وبعد نصف قرن من الصحافة راتبي يعادل وجبة عشاء لواحد من أثرياء الحروب مع زوجته، أو ثمن حذاء وطني وليس إيطالياً، وبإمكانكم تصور وضع الناس، فأنا لست حالة فردية.
لأنني عبقري زماني أستطيع الكتابة في كل المجالات، أو في معظمها على الأقل، لكن المشكلة أنني لو كتبت مقالة واحدة في اليوم وعلى مدى الشهر بكامله لا أستطيع توفير المواد الغذائية الرئيسية التي تجعلني قادراً على الكتابة أصلاً من دون أن أشعر بالجوع والفاقة والقهر!.
الذين استبعدوا من الدعم مثلي يشعرون بما أشعر، ويعانون بما أعاني، لكن من استبعدونا لا يشعرون بمعاناتنا ووجعنا وكأنهم من كوكب آخر يقبع فيما وراء الشمس والكواكب.
فعلاً أنا عبقري زماني، والعباقرة لا مكان لهم في بلدنا وغير مرغوب فيهم حتى يثبت العكس، ولن يثبت أبداً!.