ثقافة وفن

عازف الكلاشينكوف وغياب البصر … زريفة يقدم مأساة السوري الروحية والفكرية في الحرب

| إسماعيل مروة

لم يختر علاء زريفة الانحياز إلا لحرية مطلقة، وتحلل كامل من أي شيء يعوق وصول كلمته ونصه وقصيدته، فكان متمرداً على الأب والأم، رافضاً كل شيء رآه، ناسفاً لكل ما يتم توارثه عبر أجيال، فقد ذبحه وقتله ما عاشه في الحرب من مفهومات، واختار لذلك ثلاثة تناقضات من العنوان: العزف، الكلاشينكوف، الضرير.

فالرصاص صار عزفاً، والكلاشينكوف صار آلة، والضرير يطلق العزف والرصاص، وكل ذلك من مفارقات يعطي العبارة المفتاحية دهشة خاصة عند المتلقي، وهذا ما اختاره الشاعر علاء لمجموعته الصادرة عن دار نينوى بدمشق منذ أيام قليلة، ما يجعل القارئ مندفعاً للدخول في عوالم مجموعة شعرية أرادت بوعي مطلق أن تتحرر من كل شيء، سواء وافقنا على هذا التحرر أم خالفناه، لكننا لابد أن ندخل عالم المجموعة لنشارك في عزف مختلف.

الرفض والوعي

قدم للمجموعة الشاعر هاني نديم، فقد أراد علاء أن يدخل عالم النشر متأبطاً شاعراً سابقاً ليقوم بتعريفه وتعميده بماء الشعر، وقد عرّف الشاعر نديم بهذه التجربة المتطابقة مع روح شاعرها ليقول: «علاء ليس ضريراً على الإطلاق ولا يطلق النار سوى على الحرب والوحشية والموت والفقر والقهر والتنطع اللغوي الذي لا يحتاجه النص الكبير» وهذا الحكم قد يحتاج لنقاش كبير ليس هنا مكانه، إذ ضمّ نديم اللغة إلى القهر، ووصف اللغة بالتنطع من دون أن يحدد المراد، وعند قراءة المجموعة سنجد براعة لغوية معرفية في النصوص!! لكن اللغة صارت رديفة للحرب والقهر في دعوة يشتمّ منها رائحة الحداثة النقدية، وهذا بحاجة إلى نقاش، والنص في جوانبه كافة كان فكرياً مجتمعياً أكثر من أي شيء آخر، وما قدمه الشاعر زريفة يأتي في سياق شعري غير مستهجن فنياً من حيث الوزن والقافية واللغة.. على كل حال هناك قائمة لابد أن نحزمها معاً عند الحديث عن الخصومة، واللغة تأتي ضمناً، والعتب الوحيد هو أن الشاعر ليس متحللاً من اللغة بل هو متقن وقادر على توليدها.

لم أشأ أن أسيِّج خصري بحزام التقية
أو أكون عضواً مسلحاً في فرقة ناجية
لم أحش رصاص صدري الممزق
ببارود الحقد الرحيم
لم أرفع الصخرة التي ورثتها عن أبويّ
إثر حمل موءود
حين بلغت سن البيعة
قدم لي الكاهن كأس الجريمة

وقال لي:

اشرب والعن.

ومعاينة هذا النص تبرز مفهومات وتشابكات فكرية من التقية إلى الفرقة الناجية، وهذه المفهومات بحد ذاتها تحتاج إلى شرح وبيان، وتدل على ثقافة ووعي، فإلى أي جانب نميل؟ مع التقديم أم الشعر؟ وقد جاء الشعر مسبوكاً (لغة) وفيه صور جميلة ومشرقة.

الوطن والحب
وأنت تعبّد الأرض
بحجارة الصبر
وخطا حذائك الممزق
لا تبع أشلاءك بالطحين
لا ترمي الأرز على أحد

قل:

انتحرت ساخراً

الغاية التي يقف عندها الشاعر هي حب الوطن، لذلك نجد هذا الخطاب المتميز الممتلئ خوفاً وحرقة على الوطن الذي رآه على غير هيئته التي يحب، فوجد حالة الموت الذي اختاره انتحاراً ساخراً أعلى درجات الموت المرجو، فلا وقت لتعبيد الطرقات بالصبر على ما يجري، ولا وقت للفرح ونثر الرز، الذي هو علامته، فالحال أقسى وأبشع مما يمكن أن يمنح للإنسان فرصة للتفكر والتدبر فيما يمكن أن يفعل.

حجارة الصبر- الحذاء الممزق- البيع مقابل الطعام.

كلها مفهومات جاءت وكانت غريبة، لذلك يستنكرها الشاعر، ومن هنا تأتي أهمية عزفه.

الموروث والفائدة

إن الحالة الانقلابية التي رجاها مقدم الديوان ليست من سماته، بل إن الشاعر يستخدم الموروث، ويخرج منه في محاولة لفهمه، وهو ما دل على عمق ألمه ومعرفته.

الفرعون يطل من شرفة هرمه العالي
يستدعي ظلاله
مهرجو التاريخ يراقصون
خيوطهم المخاطية الرخوة
يأمرون عصي نبوءاتهم أن تلد أفعى الغواية
سحرة الثورات الملونة
يضربون في الرمل طاساتهم
علها تستولد عفاريت الغريزة الحمقاء

يستعيد هذا المشهد مشهدية فرعون والسحرة والأفاعي، ولكن شتان ما بين موقفين، موقف السحرة والخيوط المخاطية، أفاعي الاعتقاد وأفعى الغواية، براعة مشهد، وسطحية مشهد آخر، ولو لم يكن الشاعر مختزناً للتراث، واللغة ضمناً فما كان بإمكانه أن يقدم هذا التوظيف الموفق بين زمنين ومشهدين.

الشعر ومهمته

يقدم الشعر مهمة للشاعر تحدث عنها الشعراء من قبل، لكنه اختار صورة أخرى، واختار حالة إشكالية، لم تسعفه معرفته في اختيار مفردة معبرة، فرفض نزار كان للشاعر المأجور، والشاعر هنا اختار «المختون»! والختان لا يعني شيئاً لأنه ليس صفة أخلاقية، ليختم بكلمة إشكالية أيضاً «ضمدوني» ويخشى من مثل هذا الاستخدام في البداية والخاتمة، لأن الخاتمة تعيدنا إلى تعبير رسالي مقدس!

لا ترافقي شاعراً مختوناً
إلى حتفه
يتكلم بلغة الإتيكيت
يقدم سيرته الذاتية بأسطر
يبلل شحفة خياله المبتور
بمائه الصدئ
يقذف قصيدته في وجهك
وبعد خمس دقائق

يصرخ:

ضمدوني.

فهل كان الاستخدام مقصوداً؟!

لا أظن ذلك في شاعر يمتلك هذا القدر من الانتماء والقدرة للبحث عن وطن جميل معافى فيه الحب بدل انهمار الرصاص من عازف ضرير على الكلاشينكوف.

إن اختيار العنوان والقصائد فيما بعد، وهذه الروح الشعرية الغيورة على الأرض والوطن تدل دلالة قاطعة على شاعر يعزف ما يريد، وهذا العزف الذي صوره هو صورة عبثية، لأن من لا يرى ببصيرته يقذف النار والقتل والحقد في كل اتجاه.. فهل نسترد الكلاشينكوف من العازف الحاقد على وطن نبيل؟!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن