قضايا وآراء

نصف نجاح للماكينة الألمانية

| عبد المنعم علي عيسى

لربما لا يوجد في العالم أحد قادر على فهم الهواجس الروسية، التي تنامت مؤخراً بشكل مثير للقلق وهو مبرر في آن واحد، أكثر من الألمان الذين يرون أن روسيا اليوم تعيش الحالة نفسها التي كانوا يعيشونها في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي وصولا إلى أواخرها التي شهدت اندلاع حرب عالمية مدمرة بفعل التضييق الغربي الرامي لشل حركة «الماكينة» الألمانية بعد خروج هذي الأخيرة مهزومة في الحرب العالمية الأولى، ومن حيث النتيجة فقد حملها «الحلفاء» مسؤولية اندلاع تلك الحرب، ثم ذهبوا نحو انتهاج سياسات ظنوها وقائية، أو هي كفيلة بمنع تكرار سيناريو 1914 – 1918، الأمر الذي جاء بمفعول عكسي قاد في خواتيمه إلى نتائج كارثية قادت، هي الأخرى، بدورها إلى سيناريو 1939 – 1945، الذي أعقبه محاولات تحجيم ألمانيا من جديد، وفي السياق جاء فعل تقسيم الأمة الألمانية إلى قسمين أحدهما غربي والآخر شرقي والذي استمر لـ45 سنة قبيل أن يسقط جدار برلين في نهاية المدة آنفة الذكر وتستعيد الأمة الألمانية وحدتها.

على مدار الأشهر الثلاثة السابقة لم تنقطع المحاولات الأوروبية الرامية إلى وضع حد للتأجيج الحاصل في الأزمة الأوكرانية، والذي أخذت تباشيره تلوح في الأفق بعيد مسعى ناتووي، برأس حربة أميركي، يريد ضم أوكرانيا إلى أحضانه، وإذا ما كان ذلك المسعى ليس بجديد، بل تعود بداياته إلى العام 1997 الذي شهد نجاحاً غربياً في ضم بعض من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وبعض من دول كانت أعضاء في حلف «وارسو» الذي انهار العام 1989، إلى الفضاءات الغربية التي راحت تشكل سواراً حديدياً حول المعصم الروسي، فيما كانت علامات الضيق على هذا الأخير آخذة بالتنامي بسبب ذلك الفعل، حتى إذا وصلت «الإسوارة» إلى قفلها الأوكراني بدا وكأن موسكو لن تقبل بأقل من تفكيك باقي أجزائها تحت طائلة اندلاع النار، التي إن اندلعت فهي بالتأكيد ستعصف بالكثير، ولربما لن تخمد إلا بـ«يالطا» جديدة تتوافق وميزان القوى الذي سيتضح بعد خبو النار.

من بين تلك المحاولات تبدو محاولة «الماكينة» الألمانية هي الأهم للاعتبارات السابقة أعلاه، ولاعتبارات أخرى لا تقل أهمية لعل أبرزها هو نزعة برلين التي تسعى من خلالها إلى التقليص التدريجي في الاعتماد على الطاقة النووية الذي سيجعلها، مهما توافرت البدائل التي تسعى واشنطن لتوفيرها، بحاجة أكثر للغاز الروسي الذي تعتمد اليوم عليه بنسبة تفوق النصف من كامل احتياجها له، ولربما لهذي الاعتبارات عينها أراد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ألا يعيد المستشار الألماني إلى بلاده خال الوفاض من زيارته التي أجراها إلى روسيا والتقى من خلالها «القيصر» ثم ليمضي الاثنان بعدها إلى عقد مؤتمر صحفي كانت العبارات المستخدمة فيه، من كلا الطرفين، كاشفة بدرجة كبيرة لما جرى في الغرف المغلقة.

أعلن بوتين في مؤتمره الصحفي الذي عقده يوم 15 شباط الجاري مع المستشار الألماني عن «انسحاب جزئي للقوات الروسية من الحدود الأوكرانية»، لكنه رفض الدخول في تفاصيل أكثر، وتلك خطوة أراد منها «القيصر» القول إن الوساطة الألمانية تحظى بتقدير موسكو التي فضلت أن ترسل عبر مستشارها «إعلان حسن نوايا»، لكن الباب سيوصد إذا ما ظلت تلك الخطوة فردية، بمعنى إن لم يقابلها نظائر لها على الضفة الأخرى، الأمر الذي اعتبره شولتز «إشارة إيجابية»، بل ذهب إلى اعتبارها بأنها تعني أن الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة «أبعد من أن تكون قد استنفدت»، والإشارتان السابقتا الذكر، كافيتان للقول إن شولتز استطاع كسب «بعض الثقة» عند محاوريه المعبرين عن ذات جماعية شديدة الحذر التي لطالما اشتهرت بها من بين كل الأمم القاطنة للقارة العجوز، والكسب هنا يشكل بالتأكيد مفتاحاً جيداً للقفل الذي استعصى على العديد من المفاتيح.

من المبكر الآن توصيف الوساطة الألمانية بالتي تمتلك فرصة النجاح الكاملة، لكنها بالتأكيد ساعدت في نزع فتيل الصاعق قبيل أن يصل إلى خزان البارود، والنجاح في عملية النزع سابقة الذكر هي محض فعل مؤقت لا يمتلك صفة الديمومة، فالولايات المتحدة في صراعها المستميت لأجل استمرارها على رأس هرم العالم، تنظر اليوم إلى الاتحاد الروسي على أنه يعيش الحالة الشبيهة بتلك التي كان الاتحاد السوفييتي يعيشها مطلع ومنتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ولربما كان من الممكن لها ألا تمارس نفس السياسات التي مارستها ضده في تلك الفترة، والتي سرعت من اقتراب الانهيار، في حال واحدة هي قبول موسكو لتراصفها في الخندق الغربي في مواجهة النهوض الصيني الذاهب إلى وسم هذا القرن بوسمه، لكن موسكو التي أعيت واشنطن، كما يبدو، بسبب رفضها لكل محاولاتها التي تندرج في ذلك السياق، يجب أن تدفع الفاتورة الخاصة بذلك الحساب الذي يجب ألا يبقى مؤجلا وفق الرؤية الأميركية.

من الواضح أن المحاولة الألمانية تقوم في عمادها على استشراف مفاده أن الولايات المتحدة لا تريد المزيد من التصعيد الذي سيقود إلى منازلة لن تستطيع قولبتها كما استطاعت قولبة التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان بدءاً من العام 1979 وصولا للعام 1988، فالمعطيات مختلفة والمناخات ليست متشابهة، ثم إن روسيا اليوم ليست بـ«الرجل المريض» الذي يمكن تقاسم تركته، على حد الرؤية التي كان الغرب ينظر من خلالها إلى الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي، وهذا يتكشف، أكثر ما يتكشف، عبر التسريبات التي خرجت مؤخراً إلى العلن، ومفادها عرض أميركي لموسكو يرمي إلى مقايضة أوكرانيا بسورية، فيما الرفض الروسي القاطع له يشير إلى تكامل ملامح النهوض الروسي الذي تطغى فيه نزعة تغليب عوامل الجيوبولتيك على المنافع والمصالح المتغيرة تبعاً لتغير السياسات وتغير الظروف والمعطيات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن