ثقافة وفن

سعيد تحسين رحل تاركاً أربعة مواضيع منها المعرفة والفلسفة … شهد المجاعة وكان عمره عشر سنوات فعلقت بروحه … أعماله عكست الحس الثوري القومي الذي كان سائداً

| سعد القاسم

أضافت السيدة هيام دركل (الأمينة التاريخية) لقسم الفن الحديث في المتحف الوطني في دمشق (1976-2012) معلومتين أجدهما مهمتين للغاية حول لوحتي سعيد تحسين (معركة حطين ومجاعة السفر برلك) اللتين تحدثت عنهما الحلقة السابقة، فكتبت (مشكورة): «رحم الله الفنان سعيد تحسين وقد حكى لي أنه لما رسم لوحة (حطين) استمر سنتين بمراجعة ما كتبه المستشرقون، والمؤرخون العرب، حول المعركة حتى تبدو اللوحة صادقة، وأما بالنسبة للوحة (المجاعة) فقد أخبرني أنه شاهد الواقعة وكان عمره عشر سنوات. فحفظها بذاكرته وعاد إليها حين رسمها. ما أروع ذلك الزمن الذي جمعني بذاك الفنان الرائد».

ميول مبكرة

تستحق سيرة سعيد تحسين الحياتية، وتجربته الإبداعية التوقف عندهما طويلاً. فقد اكتشف ميوله الفنية في مرحلة مبكرة من طفولته، وعمل على تنميتها بنفسه رغم ظروف حياته الشخصية الصعبة. تأثر في البداية بأعمال الرسامين الشعبيين، وسرعان ما عمل على دراسة قواعد الفن الأساسية من الكتب والمراجع المختلفة المتوافرة آنذاك. ترك المدرسة بعد حصوله على الشهادة الابتدائية من مدرسة (الملك الظاهر) وعمل موظفاً، ثم فتح في بيروت مدرسة لتعليم الفن في عمارة الغلاييني (1925 – 1927). كما قام بتدريس الفن في المدارس الخاصة في دمشق حتى عام 1934 حين سافر إلى بغداد، ليعمل مدرساً للتربية الفنية في دار المعلمين لعدة سنوات، حيث رسم لوحات عكست الجو الثوري القومي العربي الذي كان قائماً هناك قبل ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941 والذي ظل ملازماً لسعيد تحسين طيلة حياته. كان رشيد عالي الكيلاني (1892 – 1965) أحد الرموز الوطنية العراقية، ناهض النفوذ البريطاني في الوطن العربي، وفي العراق ضمناً، ما وضعه في مواجهة نوري السعيد أبرز أعوان البريطانيين وصلت إلى ذروتها عام 1941، وتضامن الجيش والشعب معه فيما عرف بثورة (رشيد عالي الكيلاني)، أو (ثورة مايس)، فأنزل البريطانيون قواتهم في البصرة وفي قاعدة الحبانية واحتلوا بغداد وأعادوا تنصيب الوصي على العرش (عبد الله) الذي كان مجلس النواب قد أقاله، كما أعادوا نوري السعيد رئيساً للحكومة.

طرده من بغداد

أثر إفشال البريطانيين لثورة رشيد عالي الكيلاني عاد سعيد تحسين إلى دمشق مع جميع السوريين الذين تم طردهم من بغداد، وبدأ مرحلة جديدة من النشاط الفني، فأسهم في تأسيس الجمعية العربية للفنون الجميلة ومن ثم أصبح رئيساً لها عام 1942. وعمل من أجل تأسيس معهد فني يتبع لها، لكنه لم يستطع تحقيق حلمه لعدم تمكنه من توفير التمويل اللازم. كان ذلك بالتوازي مع نشاطه التشكيلي الشخصي، والرسم للمجلات والصحف والكتب المدرسية، ونشاطه في الشأن العام حيث انتخب عضواً في مجلس السلم العالمي عدة مرات. وبعد انفصال الوحدة بين سورية ومصر، غادر إلى القاهرة ليقيم هناك (1962-1983) وليشارك في النشاط الفني في مصر، ويرسم عدة لوحات مهمة عبّرت عن الفترة الأخيرة من تجربته. وفي عام 1980 مُنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، وهو مريض في القاهرة، فاستلمته زوجته نيابة عنه. وفي عام 1994 أصدرت وزارة الثقافة كتاباً عنه من تأليف غازي الخالدي، هو أحد كتابين صدرا في تلك الفترة عن فناني جيل الرواد، (سعيد تحسين – عندما يصبح الفن تاريخاً – سلسلة أعلام الفن التشكيلي 6). وكان الثاني عن نصير شورى، وقد ألفه محمود حماد.

موضوعاته الأثيرة

يبلغ رصيد سعيد تحسين الفني أكثر من 2500 لوحة ورسماً ودراسة فنية، تلتقي في أسلوبها عند الواقعية، وتتوزع في مضامينها إلى أربعة مواضيع أساسية: أولها الموضوع التاريخي، وأشهر لوحاته لوحة (صلاح الدين الأيوبي) التي تحدثنا عنها في الحلقة الماضية. ثم هناك لوحة (معركة اليرموك) وقد رسم نسختين مختلفتين منها إحداهما في القصر الجمهوري في دمشق، والثانية في المتحف الوطني في بغداد. ولوحة (ذات الصواري).

أما الموضوع الثاني فهو التاريخ الحديث وضمنه لوحتان على درجة عالية من الأهمية، تحدثت عنهما الحلقة الماضية: (المجاعة) و(قصف المجلس النيابي). وفي سياق موضوع التاريخ الحديث أنجز (سعيد تحسين) عدة لوحات حملت عناوين: (ستعودين يا بنتي إلى فلسطين) و(العدوان الثلاثي على مصر) و(ميسلون) و(مباحثات الوحدة بين مصر وسورية) وسواها.

الموضوع الثالث هو الفلسفة، وقد أنجز لوحاته بحكم تأثره بالأجواء الفكرية والفلسفية الحاضرة في العراق، إذ تعرف خلال إقامته هناك إلى الشاعر جميل صدقي الزهاوي (١٨٦٣– ١٩٣٦) الفيلسوف والشاعر العراقي، الذي تميز منهجه الفلسفي بالاستناد إلى علم الطبيعة والظواهر وخاصة نسبية أينشتاين، ومنهجه الاجتماعي بالتحرر واحترام المرأة وتقدير دورها في بناء الوطن، وشعره بالواقعية ورقة المشاعر ونبل الآراء وجرأة القول والتحريض على التحرر من قيود التقاليد والمفاهيم المتخلفة. وتعمقت ثقافة سعيد تحسين نتيجة لقاءاته مع الزهاوي، فأصبح يهتم بالمواضيع التاريخية، والفلسفية، والقضايا القومية العربية الراهنة، ورسم له لوحة من أهم لوحات هذه المرحلة، عبر فيها عن عالم الزهاوي القلق والمتمزق. كما اطّلع على الشعر وعلى الفلسفة، وعلى آراء المعري، وحاول التعبير عن بعض هذه الموضوعات، والتي تدور حول (المصير) و(الخير والشر) و(الإيمان). من وحي ما قرأه للمعري وعنه، ومنهما لوحات عن المعري نفسه (أبو العلاء المعري) و(اللحن الإلهي)، إضافة إلى لوحتي (انطلاق الإنسانية) و(تدمير الإنسانية) الموجودتين ضمن مجموعة المتحف الوطني، ولوحات غيرها تناولت مواضيع فلسفية شغلته دوماً مثل (الخير والشر)، و(الحرية والعدالة)، و(الإيمان والشك)، ، واتسمت جميعها بالميل إلى الرمزية.

أما الموضوع الرابع فهو مشاهد الوقائع المحيطة به، ومعها مشاهد الطبيعة والطبيعة الصامتة، فقد صور سعيد تحسين عدداً من مشاهد الحياة الشعبية مثل: (عرس في دمشق) و(عرس في قرية)، و(دبكة)، و(المضافة) و(المصلين في الجامع)، كما رسم عدة أعمال فنية أخرى عن (الأموي) و(البيت الدمشقي) القديم والطبيعة السورية، والطبيعة الصامتة، إضافة إلى الوجهيات (البورتريه)، ومنها وجهية (أبو أمين السمان) ضمن مجموعة المتحف الوطني، وجميعها نفّذت بأسلوب واقعي تسجيلي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن