لم يكن خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 شباط الجاري خطاباً عادياً، بل يمكن وصفه بأنه خطاب «محاكمة التاريخ»، المحاكمة التي تأخرت كثيراً، والتي لم يجرؤ أحد من قادة روسيا المعاصرة على تناول هذه المسائل الحساسة، المسكوت عنها طويلاً، والسبب أن القنابل الموقوتة التي وضعت، نتيجة أخطاء تاريخية، بدأت تنفجر واحدة تلو الأخرى، وهذه الأخطاء برأي بوتين ترقى لمستوى الخطايا التي تدفع روسيا المعاصرة أثمانها، ولأن كلامه برأيي مهم للغاية ليس للمواطنين الروس فقط، وإنما لنا أيضاً لفهم ما يجري الآن بدقة ووضوح شديدين.
يرى الرئيس الروسي أن أوكرانيا ليست دولة جارة بالنسبة لروسيا، بل هي جزء من تاريخ روسيا وثقافتها وفضائها الروحي، والأوكران بينهم وبين الروس صلات دم وقرابة وعلاقات عائلية، والفاشيون الجدد في كييف، يحاولون طمس هذا التاريخ، وتدمير هذه العلاقات، وتحويل أوكرانيا إلى دولة معادية لتاريخها وجذورها وبيئتها وفضائها الطبيعي، إنهم يشبهون إلى حد كبير أولئك اللبنانيين الذين يعادون سورية مثلاً من دون قراءة التاريخ وفهم الجغرافيا، ووشائج القرابة والدم، وهؤلاء ليسوا إلا أتباعاً لمشاريع خارجية كما تثبت في كل مرة الأحداث والوقائع.
ولأن بوتين يدرك أنه لا يمكن تغيير أحداث الماضي، ولكن لابد من الحديث عنها بصراحة، ووضوح شديدين، هنا أراد بوتين القول للروس والأوكرانيين ما يلي:
* إن أوكرانيا الحالية هي دولة أوجدتها روسيا، وبدقة كما قال «الشيوعيون الروس» البلاشفة.
* يرى بوتين أن أوكرانيا اخترعت على يد فلاديمير لينين، وأن ستالين أكمل الطريق بعد الحرب العالمية الثانية بضم أجزاء من بولونيا ورومانيا وهنغاريا لها، وفي عام 1954 أكمل نيكيتا خروتشوف هذا المسار باقتطاع القرم من روسيا وضمه لأوكرانيا السوفييتية آنذاك، وبهذا الشكل أسست أوكرانيا المعاصرة.
* الخطأ التاريخي الآخر ارتكب منذ تأسيس الاتحاد السوفييتي من خلال رؤية لينين لشكل الدولة «كونفدرالية»، وشعاره حول حق تقرير المصير، وإعطاء الجمهوريات صلاحيات أكثر من السلطات الاتحادية حال الانضمام للاتحاد السوفييتي، وهو ما ثبت في الدستور السوفييتي عام 1924.
* ما قصده بوتين هنا في نقده لرؤية لينين، ومن ثم ستالين، ولاحقاً خروتشوف، أن هناك أراضي مع سكانها تم اقتطاعها من روسيا التاريخية، وقدمت كما سماها «هدايا سخية» لإرضاء القوميين، وزاد على ذلك إعطاء الجمهوريات حق ترك الدولة الاتحادية الواحدة، من دون أي شروط، وبرأيه فإن هذا كان «جنوناً خالصاً».
* ما أراد بوتين إيضاحه أن أوكرانيا السوفييتية هي نتيجة لسياسة البلاشفة، لا بل يمكن تسميتها بشكل أكثر دقة، حسب الرئيس الروسي أنها «أوكرانيا فلاديمير لينين» لأنه هو مبتكرها، ومهندسها، وهذا ما تثبته الوثائق التاريخية والأرشيف، بما في ذلك غرز أو إلحاق الدونباس الذي هو أرض روسية، بـأوكرانيا المبتكرة شيوعياً، ومع كل ذلك فإن «الذرية الممتنة» أي قيادات أوكرانيا الحالية، عملت على ما سمته «اقتلاع الشيوعية» وقلعت حتى تمثال لينين الذي أوجد أوكرانيا.
* هنا كان بوتين واضحاً مع الأوكران عندما قال لهم: إن اقتلاع واجتثاث الشيوعية، هو أمر جيد جداً بالنسبة لنا ويناسبنا تماماً، ولكن سألهم: لماذا توقفتم في منتصف الطريق؟ نحن جاهزون لنريكم ماذا سيعني اقتلاع الشيوعية الحقيقي بالنسبة لأوكرانيا!
أي إن الرئيس الروسي أراد القول بوضوح شديد للقيادات الأوكرانية إن اقتلاع الشيوعية يعني اقتلاع أخطائها التاريخية، وتصحيح الخطايا التي ارتكبت على حساب روسيا الاتحادية، ومن أرضها التاريخية، فالقضية ليست اقتلاع تماثيل، وإنما إعادة الحق المسلوب الذي سرقه قادة الشيوعيين السوفييت وأهدوه بسخاء لابتكار اسمه «أوكرانيا» حسب محتوى كلام بوتين.
* إن الأخطاء التي ارتكبت، سببها أن قادة الحزب الشيوعي السوفييتي كانوا مقتنعين أنهم وضعوا نظاماً صلباً في إدارة الدولة، وأن سياساتهم حلت القضية الإثنية بشكل جيد، لكن برأي بوتين إن التزوير والتضليل وعدم وجود مبادئ وإهمال الرأي العام، أدى لدفع أثمان كبيرة، وهذه الأثمان دفعت عندما تبين أن اللغم الذي زرع منذ تأسيس الاتحاد السوفييتي، انفجر عام 1991 وهو تاريخ تفكك الدولة السوفييتية، وهذا اللغم هو حق الجمهوريات بالانفصال عن الاتحاد السوفييتي!
* أما في مرحلة الرئيس ميخائيل غورباتشوف، فقد عادت القضية الإثنية للظهور نتيجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، والتخطيط المركزي للاقتصاد، والشهية المتصاعدة للنُخب المحلية، والفشل الذريع لغورباتشوف في اتخاذ الإجراءات الضرورية اقتصادياً، والتحول التدريجي للنظام السياسي والحكومة بطريقة متوازنة، وبدلاً من ذلك فإن قيادات الحزب الشيوعي انخرطت في حديث مزدوج، ومخادع عن حق تقرير المصير.
* الخلاصة المهمة التي أراد بوتين قولها إن تفكيك الاتحاد السوفييتي الذي سماه ذات يوم بأنه أكبر «كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، تم نتيجة أخطاء إستراتيجية تاريخية من قيادات الحزب الشيوعي السوفييتي «البلاشفة» في أوقات مختلفة في مجالي: بناء الدولة، والسياسات الاقتصادية والإثنية.
وعلى الرغم من اعتراف روسيا الاتحادية بالواقع الجيوسياسي الجديد الذي نشأ نتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي لا بل تقديم مساعدات للجمهوريات الناشئة، ومنها أوكرانيا التي دفعت لها روسيا 250 مليار دولار ما بين عامي 1991-2013، فإن بعض الجمهوريات أدارت ظهرها في بعض الأوقات لموسكو، لا بل عملت على تشكيل منصات لحلف الناتو ضد الأمن القومي الروسي، وهو ما بذلت موسكو من أجله جهوداً جبارة لكنها لم تصل لأي نتيجة.
إن أهم ما يمكن قراءته في هذا الخطاب التاريخي هو أن أخطاء القيادات السوفييتية المتلاحقة، وغرورها في مرحلة ما، وتقديسها للنصوص الإيدولوجية، قد أدت إلى أثمان باهظة، وكادت تؤدي إلى تفكك روسيا الاتحادية نفسها نتيجة لانبطاح قيادات روسية أمام الغرب، وعدم دفاعها عن المصالح القومية للشعب الروسي، التي كادت تذهب هباءً منثوراً أمام شخصيات انتهازية لا تقرأ التاريخ ولا تفهمه.
إن جذور المسائل الراهنة بدءاً من روسيا، وانتهاء بمنطقتنا، تحتاج إلى فهم دقيق للتاريخ وجذور المسائل، وأحياناً العمل على تصحيح الأخطاء قبل استفحالها وتحولها لقنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
سورية ضمن هذا الإطار لا يمكنها أن تتساهل الآن في مسألة استقلالها، ووحدة أراضيها، ولا في قرارها المستقل، ولا في كتابة دستور سوف يورث الأجيال القادمة ألغاماً ستنفجر في وجههم لاحقاً، ولذلك فإن المرونة مطلوبة لكن ليس في القضايا الجوهرية والأساسية والمصيرية، فتاريخ سورية يعلمنا الكثير، والحرب الوجودية التي مازالت، علمتنا أكثر، والأهم أن قراءة تجارب الآخرين ومنها تجربة الروس، أو غيرهم يجب أن تُفهمنا أن الاستعجال في القضايا المصيرية قد يكون مدمراً ذات يوم، والأهم أننا جزء من هذا المخاض العالمي وما زلنا جزءاً أساسياً ومهماً، ومن يعتقد أنه يعيش في جزيرة معزولة، ما عليه سوى مراجعة تاريخ سورية وتأثيرها وتأثرها بما يجري في الإقليم والعالم.
التحولات في العالم سريعة ومهمة، وهي بشكل أو بآخر تتم لمصلحتنا على الرغم من الصورة الرمادية التي قد تبدو للبعض.