قد لا يكون من المبكر اليوم القول: إن الأزمة السورية قد دخلت بعد 24 شباط الجاري منعرجاً مهماً، وهو يختلف جذرياً عن كل المنعرجات التي اعترضتها على كثرتها، وهو، أي ذلك المنعرج، يمكن اختصاره بالقول: إن سني الأزمة العشر السورية السابقة كانت كلها تمضي في ظلال نظام دولي تهيمن عليه الولايات المتحدة حتى لتكاد تؤثر في كل تفصيل فيه، في حين أن الجنين الذي تأكد دخوله مرحلة «التعشيش» في اليوم الوارد أعلاه، يحمل في تراسيمه ولادة نظام جديد، لا يعني بالضرورة زوال نظام القطب الأوحد، فهذا النظام تهتَّك منذ حربي أفغانستان 2001 والعراق 2003، ثم بدأت ملامحه بالتلاشي بعدهما، وإنما يعني بداية التهتّك في نظام الهيمنة الغربية الأنغلوساكسونية التي لا تزال قائمة بعيد التهتّك الأول، وقد يكون من المبكر أيضاً وصفه، أي وصف النظام الجديد، بعالم ثنائي القطبية، قبيل الوقوف على النتائج التي ستمضي إليها الحرب في أوكرانيا، ثم التراصفات الإقليمية والدولية التي سترافق تلك الحرب، لكنه، أي ذلك النظام، سيكون مختلفاً تماماً عما سبقه، فالصخور تدحرجت من أعالي الجبل وهي ستختط مسارها وصولاً إلى قاعه، وما بين بدء تلك العملية ونهايتها سترتسم الكثير من المعالم، وستتحدد الكثير من المفاهيم، وفي سياقهما ستمتلئ سلة المهملات بتوافقات سابقة لعل الأكثر منها تلك التي تختص بأزمتنا نحن.
في غضون الأيام القليلة التي سبقت الحرب في أوكرانيا، بدأت ترتسم ملامح علاقة جديدة بين موسكو ودمشق، وهي في خطوطها العريضة من النوع الذي ينقلها من حيز التحالف القائم على مبدأ الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية ومحاربة الإرهاب القائم منذ «عاصفة السوخوي» في أيلول 2015، إلى حيز جديد يتعدى في مخرجاته حدود الجغرافيا السورية، والأخير يأخذ بتلك العلاقة نحو أن تصبح هذي الأخيرة بين الطرفين في سياق الصراع الدائر بين معسكرين، أو نهجين، دوليين، بكل ما يعنيه ذلك من حمولات على الأزمة والكيان السوري، من دون أن يعني ذلك أن تلك الحمولات، كلها، هي من النوع السلبي على الآخرين، فالمؤكد هو أن جلها، أي جل تلك الحمولات، ستندرج في خانة الإيجاب قياساً للعديد من المعطيات والمؤشرات على الانتقال إلى هذا الحيز الأخير، فدمشق التي سارعت إلى الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في أعقاب خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 شباط الذي أعقبه توقيع الاعتراف باستقلالهما، كانت تدرك تماماً ماذا يعني ذلك، وأين تضعها خطوتها تلك؟ وقبيل ذلك كانت زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى دمشق التي تزامنت مع بيان لوزارة الدفاع الروسية أعلنت الأخيرة فيه عن نقل عتاد نوعي إلى قاعدة حميميم الروسية، وكلا الحدثين، الزيارة التي كثرت التأويلات حول دوافعها وتوقيتها والبيان، يختط مساراً لا يقل أهمية عن المسار السابق.
في المنعكسات كانت هناك العديد من المؤشرات الدالة على متغيرات كبرى في طريقة التعاطي الروسية مع الملفات السورية التي يصح اعتبارها، كل على حدة، أزمة لها خصوصيتها، فاللكنة الروسية كانت قد شهدت تغيراً ملحوظاً في مقاربة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على العمق السوري، والتغير الذي لم يبلغ بعد حدوداً يمكن الرهان من خلالها على حدوث تحول رادع باتجاه وقف تلك الاعتداءات، من المرشح له أن يشهد في المرحلة المقبلة تطورات تنسجم مع المواقف التي راحت تل أبيب ترسمها لنفسها في سياق تراصفها الحتمي مع الغرب.
ثاني الملفات السورية المرشحة لحدوث تحولات كبرى فيها هو ملف إدلب الذي تحكمه العلاقة الروسية التركية إلى حد بعيد، حيث من المؤكد أن تشهد هذه الأخيرة تصعيداً يتساوق مع التراصف التركي الذاهب شيئاً فشيئاً نحو إعادة تموضع تركي من النوع الذي قد يصبح لاغياً لكل التفاهمات التي حصلت في أعقاب المصالحة الروسية التركية الشهيرة شهر آب 2016، وعليه فإن مسار «أستانا» سيصبح على موعد لدخوله «الثلاجة» التي لن يخرج منها إلا بعد انقشاع الضباب الأوكراني، ناهيك عن أن مسار «اللجنة الدستورية» سيكون على موعد هو الآخر للدخول في مرحلة «سبات»، كان هناك الكثير من الأسباب التي تراكمت مؤخراً لمروره فيها، حتى إذا جاءت النار الأوكرانية كان لزاماً الإقرار بأن درجات الحرارة السائدة ليست مثلى لنشاط خلاياه.
كتكثيف أولي يمكن القول: إن التناقض الحاكم لمسار وتطور الأزمة السورية ما بعد 24 شباط فصاعداً، بات محصوراً بشكل أساسي بالصراع الروسي الأميركي الماضي نحو افتراقات كبرى من الصعب التنبؤ الآن بالمآلات التي يمكن أن تصل إليها، بعد أن سادت السنوات العشر الماضية، حالاً من التناوب بين التأثير الإقليمي والدولي في ذلك المسار الذي شهد في مراحل عدة تثقيلاً للأول على الأخير ليعاود هذا، في مراحل أخرى، تصدر المشهد عندما يذهب «اللاعبون» الإقليميون بعيداً عن الهوامش التي تحتملها مصالح نظرائهم الدوليين، ولعل تباشير ذلك الفعل كانت قد بدأت بالظهور عشية السخونة الحاصلة في الملف الأوكراني، عندما أعلن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف عن ضرورة مشاركة «المكون الكردي» بشتى أطيافه في مسار التسوية السياسية المنحصرة راهناً بمفاوضات جنيف، والمؤكد أن كبرى مرامي الطرح الروسي الذي عبر عنه بوغدانوف، والذي قد يطيح بـ«مسار أستانا» برمته قياساً لحساسية أنقرة تجاه طرح كهذا، تتمثل في محاولة سحب «الورقة الكردية» من بين يدي الأميركيين.
موسكو اليوم، أقرب من أي وقت مضى، لدمشق.