ما يحدث اليوم في العالم هو نتيجة طبيعية لتراكمات بدأت منذ عام 1990 بتفكيك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو وإصرار القوى الاستعمارية على الاحتفاظ بحلف الناتو لمواصلة شن الحروب الإجرامية ضد الدول ذات السيادة، وغزو الشعوب الآمنة رغم المباحثات التي جرت حينها بين الغرب والرئيسين السابقين ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسن لحل الحلفين معاً، كما أنه نتيجة لثلاثين عاماً من العلاقة الصعبة بين روسيا والولايات المتحدة؛ ففي المباحثات التي خاضها الطرفان عام 1990 – 1991 كانت الولايات المتحدة تهدف أولاً وقبل كل شيء إلى نيل موافقة روسيا لدخول ألمانيا الموحدة في حلف الناتو، وأعطى وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر وعده المشهور في ذلك الوقت «ولا بوصة واحدة شرقاً» أي أن الناتو لن يتمدد شرقاً ولن يزيد عدد أعضائه، وهذا التعهد هو أقل ما كان يمكن أن تفعله الولايات المتحدة في ذلك الوقت والتي أصرّت على تفكيك حلف وارسو مدعية أن الموارد يجب أن تذهب للتنمية وأنه ليس ثمة داع للأحلاف العسكرية بعد اليوم.
بعد ذلك التاريخ عمل الغرب على تقسيم وتدمير يوغوسلافيا، وعلى زيادة أعضاء الناتو من اثني عشر عضواً إلى ثلاثين عضواً، واستمر في التمدد شرقاً إلى أن أراد من الخطوة الأخيرة المتمثلة في ضمّ أوكرانيا إليه، أن يكون تماماً على حدود روسيا حيث لا تستطيع روسيا بعد اليوم أن تمتلك قراراً مستقلاً أو أن تلعب الدور الذي هي مؤهلة للعبه على الساحة الدولية، ولذلك فإن ما قام به الرئيس بوتين هو بالفعل تصحيح للتاريخ، وهو ليس فقط ضرورة لدرء خطر وجوديّ ومستقبليّ عن روسيا، ولكنه أيضاً برهن أنه أبعد من ذلك بكثير.
فكل الآراء والتصريحات تقول إن بايدن ارتكب خطأً إستراتيجياً بمعاداته للصين وروسيا، أو أنه ارتكب خطأً تاريخياً بمحاولته زج أوكرانيا في حلف الناتو، متجاهلاً الموقف الذي سوف تتخذه روسيا في هذا الصدد، وكثيرون هم من أشادوا بتصريح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بأن ما قام به بوتين هو عمل عبقري، طبعاً في سياق المناكفة مع منافسه الذي يشغل البيت الأبيض، وفي سياق الانتخابات النصفية القادمة التي يحضّر لها ترامب بشكل نشط وطموح. لكنّ حقيقة الأمر في هذه المرحلة التاريخية هو أن الولايات المتحدة قد وصلت طريقاً مسدوداً كزعيمة لقطب واحد لم يعد يقيم وزناً للقانون الدولي أو الشرعية الدولية، إضافة إلى الكوارث التي سببتها في بلدان كثيرة في العالم والعقوبات الأحادية التي فرضتها على الشعوب خارج إطار القانون الدولي وكل الأعراف الدولية والأخلاق الإنسانية.
إذا ما أضفنا إلى ذلك الوضع الصعب الذي تعاني منه الولايات المتحدة داخلياً نتيجة اعتماد اقتصادها حصراً على بيع السلاح وإشعال الحروب ونشر الأوبئة وليس على الإنتاج المدني وتوزيع الثروات بشكل عادل، نستنتج أن ما قام به الرئيس بوتين هو ضرورة دولية وإنسانية للمساعدة في ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يطمح العالم برمته إلى ولادته وتحاول الكتلة الاستعمارية الغربية أن توقف عدّاد هذه الولادة التي لم يعد يحتمل التاريخ ولا الضرورات البشرية تأجيلها.
وإذا ما استذكرنا مبدأ مونرو الذي لا يزال سارياً في الولايات المتحدة وينص على أن للولايات المتحدة الحق في أن تمنع «بالقوة» ظهور أي تهديد في محيطها يعرّض وجودها للخطر؛ ومن هنا كانت أزمة خليج الخنازير مع كوبا والتي كادت تقود إلى حرب نووية لأن الاتحاد السوفييتي أراد أن يضع صواريخه هناك، ومن هنا تتدخل الولايات المتحدة بشؤون دول أميركا الوسطى والجنوبية كي لا تسمح لأي نشاط معاد أن يهدد أمنها في المحيط الذي تعتبره من حقها لحماية أمنها القومي، وإذا ما استذكرنا كل هذا، فإن ما فعله بوتين هو تطبيق مبدأ مونرو على روسيا بعدم السماح لدولة تناصبه العداء أن تمتلك أسلحة تهدد أمنه القومي وأمن أجياله المستقبلية وأن تنضم لحلف الناتو المعادي لروسيا، ولكننا نعلم جميعاً أن الغرب يكيل بمكيالين: واحد لنفسه ولا يرضى لأحد أن يستخدمه، ومكيال للآخرين لا تنطبق عليهم ما يرتضيه الغرب لنفسه لأنه يعتقد أن الجميع أقل من الغرب.
في هذا المفصل التاريخي، وضع بوتين الغرب على المحك وقام بالفعل الذي لو كان الغرب مكانه لقام به منذ زمن ولما انتظر كل هذه السنوات بصبر وبمحاولة جادة لعدم الوصول إلى صِدام، ومن هنا نستطيع أن نعيد قراءة الحملة الإعلامية الغربية المكثفة التي شنها الإعلام الغربي الذي تديره الحكومات العميقة المرتبطة بالاحتكارات الرأسمالية الكبرى في الغرب وذلك لإدخال الوهم إلى عزيمة بوتين وإرهابه من العواقب التي قد يحصدها إذا ما أقدم على هذه الخطوة، ذلك لأنها معركة وجود ومعركة مستقبل، ولو أن بوتين تردد في القيام بما قام به لاستمرت المحاولات الغربية في تحجيم روسيا وإملاء شروط الغرب عليها لأن تجارب روسيا وتجارب العالم كله مع الغرب تبرهن أنهم لا يحترمون وعداً ولا عهداً ولا حتى اتفاقاً موقعاً، بل يفصلون فصلاً تاماً بين ما يتحدثون به وبين ما ينوون القيام به وبين ما يفعلونه لاحقاً.
من أكبر البراهين وأمتع اللحظات هي مراقبة رئيس أوكرانيا، الذي كان ممثلاً كوميدياً سابقاً، وهو أداة الغرب في أوكرانيا، وجاءت به ثورة ملونة من تلك التي تديرها المخابرات الأميركية، وهو يوجّه اللوم للغرب لأنهم لم يهبّوا إلى مساندته كما وعدوه، ويحسب أنه ذكي عندما يعطيهم درساً: «إنكم إذا لم تدافعوا عنا فكيف ستدافعون عن أنفسكم»؟ ما يُري أنه لم يفهم المعادلة ولم يستوعب الدروس من عاقبة البيادق أمثاله إطلاقاً، ولا يعرف كيف يتم استخدامه كبيدق ولأي أسباب يرتأونها، وحتى في هذه الحالة أين وعود الغرب لأوكرانيا؟ وماذا فعل الغرب بها؟ الغرب يزن الأمور بميزان مصلحته الرأسمالية البحتة بالهيمنة على ثروات الشعوب بعيداً عن القيم والأخلاق والوعود والقوانين الدولية، وما يجري اليوم سيعيد صياغة القانون الدولي والشرعية الدولية والأسس التي يجب الالتزام بها في العلاقات بين الدول.
دروس كثيرة ستفرزها الأيام القادمة، ولكن ما يجري شبيه بما جرى عام 1956 حيث كان العدوان الثلاثي على مصر إيذاناً بانتهاء الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية وولادة الدور الدولي للقوتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وما قام به بوتين يؤذن بولادة عالم جديد متعدد الأقطاب تشكل روسيا والصين فيه قطبين مهمين يشاركان بصياغة النظام العالمي الجديد، على حين قد تكون آخر المعارك للغرب الذي لا قوة لديه سوى فرض العقوبات على الدول والأشخاص، وهذا الأسلوب لن يجدي نفعاً لأن الدول المتضررة ستجد أسلوباً للتعاون والتبادل وإفراغ هذه العقوبات من أثرها ومحتواها، وستعمل على إرساء أسس مختلفة للعلاقات الدولية لا تسمح لأي دولة أو قوة عسكرية أن تفرض أسلوبها ورؤيتها على الآخرين أو أن تسمح لنفسها بأن تمثل القانون الدولي الذي ترتئيه وكيف ترتئيه وتفرضه على الآخرين بالقوة؟
نعيش اليوم لحظة الحقيقة والتي سيكون لها ارتداداتها على مستقبل البشرية ككل.