«روسيا لا يمكن لها أن تكون قوة عظمى من دون أوكرانيا»، القول السابق هو لزبينغو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس السابق جيمي كارتر (1977– 1981)، لكن الصفة الأبرز التي حملها المستشار حتى بعد خروجه من منصبه المشار إليه، هو أنه كان أحد كبار المنظرين في الصراعات الدولية وبناء الإستراتيجيات الكبرى البعيدة المدى، وما نقصده من هذا التوصيف الآنف الذكر، هو أن القول السابق لم يكن له أن يصدر عن شخصية بهذا الوزن لولا توافر مبررات جيوسياسية، وأخرى نظيرة لها تتعلق بالاقتصاد، والمخزون الحضاري والثقافي عند الموصوف، والأهم هو أن ما قاله، كان يمثل بالتأكيد الأساس المنهجي الذي بنت عليه الولايات المتحدة سياساتها تجاه روسيا ما بعد الزلزال المدوي الذي نتج عنه انفصالها عن محيطها الذي شكل تمازجها معه بروز قوة عظمى تقاسمت السيادة على العالم مع القطب الأميركي لعقود خمسة على الأقل.
كان سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 ناجماً بالدرجة الأولى عن مبررات داخلية قادت إليه، لكن البعد الخارجي لذلك السقوط كان حاضرا بالتأكيد، ولكي لا يساء فهم هذه النقطة الأخيرة نقول إن الزعيم السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، كان في عام 1983، أي عندما طرح الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ريغن مشروعه الذي أطلق الإعلام عليه اسم «حرب النجوم» الذي فتح الباب على مصراعيه لسباق تسلح ما كان للاتحاد السوفييتي القدرة على السير فيه حتى النهاية، نقول كان غورباتشوف أمام أحد خيارين، أولهما الانفتاح على الداخل بكل قواه خصوصاً المعارضة منها بعد أن استشرفت هذي الأخيرة هبوب رياح خارجية ستحمل الكثير من المتاعب معها، وثانيهما هو الضغط على منظومة القوى السياسية والاقتصادية والثقافية في البلاد، على طريقة جوزيف ستالين، لوضعها في قوالب تصبح البلاد قادرة من خلالها على مواجهة رياح الخارج التي كان من الواضح جداً إلى أين ستمضي، والغريب هو أن غورباتشوف اختار الأول، وعلى الرغم من أن هذا الأخير كان يبدو خياراً منطقياً، لكنه لم يحظ بفرص النجاح لسبب أساسي هو أن ميزان القوى الداخلي لم يكن يميل لمصلحة السلطة القائمة، إذ إن من المؤكد أن القيام بعملية الإصلاح الداخلي والانفتاح على القوى المعارضة والمتضررة من الوضع الراهن، لا يمكن له أن يؤدي الغرض المطلوب منه إلا في حال واحد هو ميلان ميزان القوى لمصلحة القائم بالفعل.
عندما بدا أن العملاق السوفييتي راح يترنح، سارع الغرب وقبيل السقوط لبناء «الطوق» حول الجدارات الروسية التي كانت قد تداعت بشكل كبير، وعليه فقد جرى التوقيع على «ميثاق باريس» للعام 1990 الذي مكن البلدان الموقعة عليه من أن «تختار حلفاءها»، الأمر الذي عنى نسفاً تلقائياً لإعلان هلسنكي الذي وقعته الدول الأوروبية العام 1975 والذي شكل أساساً لاستقرار القارة العجوز انطلاقاً من رسمه لخطوط التماس ما بين المعسكرين المتصارعين آنذاك، وحق البلدان في اختيار حلفائها الذي أقره «ميثاق باريس» كان يعني بشكل قاطع أن حلف «الناتو» سوف يكون مطلق اليدين في الفضاءات التي ستتحرر في الجوار الروسي لاحقاً، وبمعنى أوضح كان «ميثاق باريس» رسماً استباقياً بالقلم الرصاص لمشهد راحت تتحدد معالمه شيئاً فشيئاً منذ مطلع الألفية الراهنة.
ما بين عامي 1993- 1994 بدأت الخطوات العملية لتطبيق «ميثاق باريس»، ففي الحد الأول كانت بولندا قد انضمت إلى حلف «الناتو»، الأمر الذي أبدى الرئيس الروسي بوريس يلتسين «تفهمه» له في حينها على وقع الوهن العام الذي اعترى الجسد الروسي برمته، وفي الحد الثاني كانت الخارجية الروسية قد حصلت على وثائق قاطعة توضح مخططات «الناتو» للتوسع في محيطها الأبعد المتمثل بأوروبا الشرقية ومحيطها الأقرب الذي تمثله دول الاتحاد السوفييتي السابق التي كانت قد انفصلت عنها، حتى إذا جاءت المحاولات لتعديل ذلك المسار، ومحاولة لملمة أوراق القوة في خدمة الأمن الروسي، بدءاً من منتصف التسعينيات، تكشف أن الوقت قد تأخر، ليمضي يليتسين في عام 1997 نحو توقيع «القانون التأسيسي للعلاقات المتبادلة والتعاون والأمن» مع «الناتو»، الذي قاد من حيث النتيجة إلى انضمام العديد من أعضاء حلف «وارسو»، ومعها دول البلطيق، إلى هذا الأخير.
ما بعد وصول فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة في الكرملين أواخر العام 1999، الذي حمل بين ثناياه رؤية جديدة للدور الروسي، وكذا محاولة للنهوض بذلك الدور، كانت محاولات الغرب في حصار روسيا مستمرة، لكن قواعد اللعبة تغيرت، خصوصاً ما بعد محطة آب 2008 التي مثلت دفعاً لجار مهم هو جورجيا للتحرش بالجار الروسي للوقوف على مؤشري «الإرادة والتصميم» اللذين تمتلكهما الرؤية الجديدة، وعندما ثبت أن اللعب بالنار غير ناجع، راحت البدائل تشير إلى وجوب استخدام القوة الناعمة التي تمثلت بـ«الثورات الملونة» التي اجتاحت المحيط الروسي على امتداد العقد الأول من هذا القرن، وعلى الرغم من أنه كان لتلك الثورات ما يبررها داخليا، إلا أن أذرع الغرب كانت واضحة فيها، حيث سيمثل التلويح الأميركي لشعوب أوروبا الشرقية بإمكان تكرار «مشروع مارشال»، الذي جاء كمساعدة أميركية لنهوض أوروبا الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية، رأس حربة في استمالة تلك الشعوب للتمرد على أنظمتها القائمة والتي كانت تأخذ بعين الاعتبار حقائق الجغرافيا ومشتركات التاريخ مع الجار الروسي، لكن الثابت أن «الثورة الملونة» الأوكرانية عام 2014 كانت الأوجع لهذا الأخير.
بدأت محاولة الاستثمار الغربي في أوكرانيا «الموجعة» لموسكو، بعد ثبات حالة النهوض الصيني المذهل، الذي بدا أن لا شيء قادراً على إيقافه، وبعد ذهاب موسكو إلى توسعة التلاقيات مع بكين وصولاً إلى محاولة الطرفين تشكيل جبهة معارضة للهيمنة الغربية على العالم، وعلى الرغم من أن النسيج الغربي كان قد أظهر تهتكاً في بنيانه كان قد بدء في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي لم يعر «الناتو» كثير اهتمام، ثم تواصل مع سلفه جو بايدن الذي مضى إلى تأسيس تحالف «أوكوس» مع بريطانيا وأستراليا، إلا أن ذلك النسيج تجاوز تلك الخلافات ليظهر وحدة متجانسة تمثلت في مؤتمر ميونيخ للأمن شهر شباط المنصرم، حيث سيفقد هذا الأخير، في دورته الأخيرة، صبغته التي ميزته منذ نشوئه، والتي كانت تقوم على أنه يمثل منصة للحوار وتبادل وجهات النظر، ليتحول، في دورته الأخيرة، إلى منصة للتحشيد ضد روسيا التي غابت، إلى جانب الصين، عن ندواته هذا العام، ولم تكن مصادفة أن يذهب الرئيس الروسي بعد 24 ساعة من انتهاء أعمال المؤتمر إلى خطابه الشهير 21 شباط الماضي الذي أعقبه توقيعه على مرسومين تعترف بموجبهما بلاده باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، حتى إذا جاءت ردود الأفعال بصورة قال الغرب إنها ستكون على شكل موجات متعاقبة من عقوبات سوف تتصاعد، كان حتميا اندلاع النار.