قضايا وآراء

أوكرانيا وسيناريو أفغانستان: الاستنزاف أم المواجهة الشاملة؟

| عامر نعيم الياس

تحدّى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النظام الأحادي القطبي، وحاول على امتداد سنوات أن ينبّه إلى ضرورة احترام بلاده واعتبارها قوةً كبرى، لكن من دون جدوى، وبسبب الصلف الغربي دُفع الرجل دفعاً إلى الحرب. خيارٌ وحيدٌ وإلزاميٌّ إن كان يريد إنقاذ بلاده من التفتت مرةً أخرى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فانكفاء روسيا داخل حدودها يعني انهيارها وتفتتها.

هناك إجماعٌ اليوم على أن الحرب الأوكرانية هي:

– بداية التأسيس لنظامٍ عالميٍّ جديد على أنقاض النظام أحادي القطب القائم منذ عام 1991.

– تراجع الردع الأميركي إلى الحدّ الأدنى، حيث ضربت موسكو عرض الحائط بكامل التحذيرات الأميركية وقامت بعمليتها العسكرية.

– ردود الفعل في المعسكر الغربي و«ناتو» على وجه الخصوص، هي ردود فعلٍ تقوم على تفعيل مبدأ المواجهة الاستراتيجية، وقطع الطريق على أي محاولة للتعاضد الاستراتيجي.

– باقي دول العالم وخاصةً الهند والصين وإيران ودول «بريكس» ليست في الصف الغربي وغير منضبطة نهائياً في لعبة الاستقطاب الأميركي، وتسعى لتوسيع هامش تحركها الإقليمي في لحظة إعادة تشكيل العالم.

– الاقتصاد العالمي في وضعٍ لا يمكن مقارنته بالمواجهة إبان الحرب الباردة، وهو يشبه الوضع القائم خلال الحرب العالمية الأولى، حيث صراع القوى الرأسمالية على العالم والحفاظ على أمنها السياسي والاقتصادي.

الأسبوع الأول من الحرب شهد هجوماً روسياً على كامل المحاور في أوكرانيا، والواضح أن الأهداف الروسية الخاصة والمباشرة والآنية هي:

– تحييد أوكرانيا نهائياً عن المطامع الغربية وعن الصراع ككل، عبر تغيير الحكومة والمجيء بحكومة غير قومية وحيادية على أقل تقدير.

– السيطرة ميدانياً على المدن الكبرى في أوكرانيا خيار لا مفر منه، والوقت المتاح ليس مفتوحاً، ونحن أمام معركة ليست طويلة بالمعنى التقني.

– أوكرانيا مقدّمة للبدء بتراجع «ناتو» عن محيط روسيا الحيوي خاصةً في البلطيق وأوروبا الشرقية، فموسكو تعتبر أن «ناتو» ووواشنطن نكثا بتعهداتهما في هذا الشأن.

– الاعتراف الغربي بالمكاسب الروسية الميدانية من القرم إلى أوكرانيا إلى محيط روسيا الحيوي.

– إبقاء باب التفاوض مفتوحاً مع الطرف الآخر، سواء الحكومة الأوكرانية الحالية أم الغرب استناداً إلى المعطيات الجديدة.

الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة قرروا مواجهة روسيا على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية غير المباشرة، على الرغم من أن بعض العواصم الأوروبية لا تزال تحافظ على خطوطٍ مفتوحة مع الكرملين وفي مقدّمتها باريس، لكن المواجهة دفعت الكرملين إلى وضع الأسلحة الروسية الاستراتيجية في وضع تأهبٍ قتالي، وهذا يشمل الترسانة النووية أو ما يسمى «الثالوث النووي»، والأسلحة غير النووية الاستراتيجية، وهو ما حدا بالمراقبين إلى وضع سيناريو أفغانستان والاستنزاف على رأس قائمة توقعاتهم لمسار الحرب الروسية على أوكرانيا، فهل هذا هو السيناريو الوحيد؟ وهل نحن أمام تكرارٍ للتاريخ، هل تكون أوكرانيا مقبرة روسيا، كما كانت أفغانستان مقبرةً للاتحاد السوفييتي؟

أولاً، في معرض الإجابة عن السيناريوهات تجدر الإشارة إلى وجود سيناريوهين:

السيناريو الأول: سيطرة روسيا على المدن الكبرى، ونجاح التفاوض مع الحكام الحاليين لأوكرانيا في الخروج من عنق الزجاجة، وتلبية المطالب الروسية، وتراجع أوروبا والناتو وواشنطن عن العقوبات المفروضة على روسيا. هذا السيناريو ضعيف الاحتمال لكون واشنطن لن تفرط بعزل روسيا أوروبياً، ولن تفرّط بخطوةٍ تعتبرها انقلاباً على إرث الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سواء في العلاقة الأميركية الأوروبية أم العلاقة بين أميركا ودول الناتو.

السيناريو الثاني: سيطرة روسيا على أوكرانيا بشكلٍ كامل، وتحويل الحدود الأوكرانية في مناطق سيطرة الناتو إلى محاور استنزافٍ للجيش الروسي. وذلك عبّر عنه الناتو باستعداده للتسليح، وعبّر عنه الرئيس الأوكراني بالإعلان عن تشكيل «فيلقٍ دولي» للدفاع عن أوكرانيا، وهي دعوة لإشغال الروس بحرب استنزاف عبر الحدود سواء عبر متطوعين من النازيين الجدد، أو عبر أوكرانيين مع خيار الحكم الحالي، أو عبر متطوعين أوروبيين، وحتى جهاديين من سورية وليبيا يتم نقلهم وتجميعهم بواسطة تركيا.

السيناريو الثاني هو المرجّح، لكن هنا ننتقل إلى الإجابة عن السؤال الثاني الذي يطرح كثيراً، هل نحن أمام استنزافٍ على غرار أفغانستان، وهل تكون أوكرانيا مقبرةً لروسيا بوتين؟

في سياق الإجابة عن هذا السؤال تجدر الإشارة إلى:

– روسيا باتت في قلب النظام الاقتصادي الأوروبي والعالمي، كما أنها المصدر الأساس لمصدري الطاقة إلى أوروبا، فضلاً عن أنها في قلب مصدري الطاقة والقمح والذرة على مستوى العالم، وهنا يمكن القول والجزم إن الاستنزاف على المدى الطويل في حربٍ تستمر لسنوات هو أمر لا يمكن احتماله دولياً، والجدير بالذكر هنا أن موسكو حتى اللحظة لم تلوّح بورقة الطاقة، وأوروبا لم تستبعد موسكو نهائياً عن نظام «سويفت»، وحتى الولايات المتحدة أقرّت بعض الاستثناءات عن العقوبات في ما يخص الطاقة.

– الاختلاف بين أفغانستان وأوكرانيا واضحٌ للعيان، فنحن في أوكرانيا أمام بيئة حاضنة قومياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً ولغوياً للإرث الروسي، وهذا أمرٌ لا يتوقف عند حدود أوكرانيا، فلهذا العامل امتداداتٌ في كامل دول الاتحاد السوفييتي السابق.

– القوى المنافسة والموجودة على أرض أوكرانيا في مواجهة روسيا ليست ذاتها القوى التي كانت موجودة في أفغانستان، والجيش الروسي يعمل بتكتيكاتٍ تختلف عن أيام العمل في أفغانستان ويعتمد على قوى محلية على الأرض بالدرجة الأولى.

– النظام الحاكم في روسيا اليوم ليس نظاماً أيديولوجياً، وخطابه وحتى دراسته لإمكاناته وعوامل صموده ومقاومته لا تعتمد المعايير الأيديولوجية التي كانت قائمة في عهد الاتحاد السوفييتي، والواضح أن الرئيس فلاديمير بوتين وطاقم العمل في عموم روسيا يحضّر للحظة المواجهة الحتمية مع الغرب منذ سنوات.

– المواجهة التي تقودها روسيا اليوم والتي دفعت إليها دفعاً، وهي الخيار الأقل سوءاً من انتظار الانهيار التلقائي بوجود الناتو على حدودها وانكفائها هي مواجهةٍ مصيرية بكل ما للكلمة من معنى، هي مواجهة قابلة لتطوير استخدام أدوات القوة، واللعب على وتر التناقضات الدولية، وبالتالي نحن في بداية المواجهة التي تهدف إلى تغيير وجهة نظامٍ عالميٍّ عمره 32 عاماً، والمعركة ليست معركة أيام، وخاصةً أن مساحة أوكرانيا لوحدها تبلغ 600 ألف كيلومتر مربع.

بناءً على جملة المعطيات السابقة ووفقاً للسيناريو الثاني المستند على رفض البيت الأبيض للتقارب مع الكرملين ومنع أيّ عودةٍ لعقارب الساعة إلى الوراء، وإدراكاً من موسكو لجميع السيناريوهات السابقة والاحتمالات بما فيها الاستنزاف والرغبة في تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان ثانية، فإن الكرملين وفي قلب السيناريو الثاني سيتحرك بواحدٍ من اتجاهين:

– الأول: استهداف الأفراد والمنظمات التي تنقل سلاحاً لأوكرانيا، بعد استكمال السيطرة على أوكرانيا بشكلٍ كامل، وهذا أمر عبّر عنه المسؤولون الروس بشكلٍ واضحٍ، وبالتالي محاولة إنهاء هذا الأمر وإفشال هذا الرهان في مهده.

– الاتجاه الثاني: يتعلق بعامل الوقت ومدى نجاح الناتو والغرب في تنفيذ سيناريو المواجهة غير المباشرة مع روسيا، حيث من المحتمل أن تستهدف موسكو الدول التي ينطلق منها الإرهابيون والمرتزقة الموالون للغرب، وهنا قد تتطور معركة أوكرانيا إلى حربٍ عالمية من دون أسلحة نووية، وهو الحدث والخيار الأخير القادر على وضع دول العالم على طاولة التفاوض والتأسيس لنظامٍ متعدد الأقطاب.

بجميع الأحول ووفق كل السيناريوهات المتاحة، فإن روسيا لن تنكفئ داخل أوكرانيا وتتلقى الضربات لوحدها، والحرب هذه ليست من قبيل حرب عشر السنوات في أفغانستان، ولا يمكن لها أن تكون كذلك، وميادين المواجهة مفتوحة في كامل المحيط الأوراسي وصولاً إلى سورية، والاقتصاد العالمي ليس مؤهلاً اليوم لاحتمالات العقوبات طويلة الأمد على دولةٍ بحجم روسيا ومكانتها، وكما أن روسيا ليست العراق أو إيران أو ليبيا في وضعيتها الجيوسياسية والجيواقتصادية، فإن أوكرانيا ليست أفغانستان بالنسبة للجيش الروسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن