الأولى

العالم في كَف الكرملين

| بيروت – محمد عبيد

أياً تكن النتائج الميدانية التي ستنجلي عنها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإن روسيا استطاعت أن تفرض على العالم أجمع، تغييراً جوهرياً في خريطة الجغرافيا السياسية التي كرستها تداعيات الحرب العالمية الثانية، كذلك فإنها تمكنت من وضع خطوط حمر تؤسس لإعادة رسم «اتحاد سوفييتي» جديد، وفق صيغة متماسكة وحداثية تمنع عنه غزواً غربياً ناعماً كالذي قَوّض الاتحاد السوفييتي السابق ومعه منظومة دول أوروبا الشرقية.

منذ قرار المشاركة الروسية في الحرب على الإرهاب في سورية عام 2015، كان واضحاً أن القيادة الروسية تتهيأ إلى الانتقال إلى مسار تصاعدي قائم على استباق الأحداث، وذلك بهدف تجنب انعكاساتها السلبية على مساحات النفوذ الروسي أو الحليف في العالم كافة.

لذلك عمدت روسيا إلى صد كل المحاولات الأميركية والغربية عموماً، لإصدار قرارات إدانة ضد سورية في مجلس الأمن الدولي، كما أنها عززت دورها في موضوع الاتفاق النووي الإيراني، إضافة إلى مساندة الرئيس والحكومة في كازاخستان في إنهاء حالة الفوضى التي ضربت العاصمة «نور سلطان»، وصولاً إلى إطلاق العملية العسكرية الحالية في أرجاء أوكرانيا كافة، هذه العملية التي تحمل عناوين إستراتيجية عدة أبرزها:

أولاً: التسلل الأميركي إلى محيط روسيا، أي إلى أوروبا. كان من الطبيعي أن يسقط التوازن الذي كان قائماً أيام الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، لكن ليس مقبولاً بالنسبة إلى روسيا الحديثة محاولات الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في أوروبا الغربية السابقة، استدراج بعض الدول المحيطة بها للانضمام إلى حلف الأطلسي «الناتو»، والأخطر نشر صواريخ وأسلحة إستراتيجية مدمرة تطول العمق الروسي.

المشكلة هنا تكمن في انسياق دول الاتحاد الأوروبي خلف المشاريع الأميركية، من دون الأخذ بعين الاعتبار الجغرافيا السياسية والاقتصادية التي تجمعها مع روسيا، وكذلك التي تفصلها عن الولايات المتحدة الأميركية الجاثمة خلف المحيط الأطلسي.

ما يعني أن الأهداف الفعلية للعملية العسكرية الروسية ليس «احتلال» أوكرانيا، وإنما محاولة لإفهام أوروبا وفي مقدمتها ألمانيا، منصة «السيل الشمالي للغاز2»، أن استقرار القارة الأوروبية وجيرانها يجب أن ينطلق من المصالح الإستراتيجية للأطراف كافة وليس على حساب أي منهم.

ثانياً: إمساك الولايات المتحدة الأميركية بمواقع مصادر الطاقة العالمية وأهمها حالياً الغاز. هذا بالإضافة إلى تموضعه عسكرياً مع حلفائه على أبواب الكثير من ممرات الطاقة، ناهيك عن قيامها بإنشاء تجمعات عالمية وإقليمية تمنحها السيطرة على أسواق الطاقة، مما يُمَكِّنُها من التحكم بمفاصل التجارة والاقتصاد العالميين من دون منازع.

ولعل أحد أهم الأسباب العميقة التي تدفع المؤسستين العسكرية والأمنية الأميركيتين إلى إلغاء احتمال سحب الجيوش الأميركية من منطقة الشرق الأوسط، هو السيطرة المباشرة أو الشراكة غير المباشرة في السيطرة على الممرات المائية المتعددة التي تشكل ضمانة لنقل موارد الطاقة من هذه المنطقة.

هنا يبرز تساؤل أساسي حول مشروعية وجود هذه الجيوش من النواحي القانونية وخصوصاً أن هذا الوجود يشكل انتهاكاً موصوفاً لسيادة دول أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، والأمثلة كثيرة ومعروفة لدى الرأي العام العالمي.

وبالتالي هل يحق للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها خوض حروب استباقية تحت عناوين مفبركة تبدأ بادعاء تدمير «أسلحة الدمار الشامل»، مروراً بإيهام الشعوب وخصوصاً منها العربية، سعيها لنشر «الديمقراطية»، وصولاً إلى استعمال شعار «الحرب على الإرهاب» كذريعة لغزو الدول واحتلال أراضيها، ولا يحق لأي دولة أخرى في العالم اتخاذ إجراءات سياسية أو أمنية أو حتى عسكرية لحماية المدى الحيوي لأمنها القومي؟!

لذلك ليس غريباً أن يعمل الإعلام الأميركي والغربي عموماً وبعض العربي على نشر دعاية سياسية مفادها أن الحرب بدأت منذ لحظة إعلان القيادة الروسية انطلاق العملية العسكرية، في حين أنها بدأت فعلاً منذ زمن سعي واشنطن وحلفائها إلى توسيع رقعة نفوذها إلى حدود تطويق روسيا عسكرياً واقتصادياً بهدف تطويعها سياسياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن