ثقافة وفن

أبو العلاء المعري وفتحي محمد تلازما فكان الإبداع … آخر أعماله تمثال سعد الله الجابري الذي أعطاه روحه … خلّد عدنان المالكي بنصب تذكاري باقٍ على الزمن

| سعد القاسم

تحدثت الحلقة السابقة عن اللوحات التي صورها الفنان الرائد سعيد تحسين لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء (أبو العلاء المعري) الذي تأثر به وبفلسفته في الحياة من خلال لقاءات الفنان مع الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي في بغداد. كان (المعري) موضوع عمل فني آخر بالغ الأهمية وهو التمثال النصفي الذي أنجزه له النحات الحلبي البارع فتحي محمد (قباوة) المولود في حلب عام 1917 والذي يُعّد رائد فن النحت السوري المعاصر. كان فتحي محمد شغوفاً بالفن منذ صغره فباع كل ما يملك، ورهن البيت الذي كان يقيم فيه، كي يسافر لدراسة الفن التشكيلي في القاهرة. وضعته هذه الخطوة على شفا أزمة مالية شديدة لولا استدعاؤه إلى حلب لعمل تمثال لأبي العلاء المعري الذي حفظ فيما بعد في المكتبة الوطنية في حلب، وقد صنعت عنه نسختان برونزيتان إحداهما في الحديقة التي تحمل اسمه في قمة شارع الجلاء (أبو رمانة) في دمشق، والثانية كانت قائمة في الحديقة التي تحمل اسمه في مدينته معرة النعمان، قبل أن تقوم جبهة النصرة بتدميرها في شباط 2013. أرسل التمثال من حلب إلى القاهرة مطلع الستينيات، حيث قام (أحمد الشعيرة) بصبه من البرونز، أما التمثال الموجود في (المعرة) فقد تم صبّه في دمشق حيث تم استدعاء البلغاري (كومانوف) لأجل ذلك.

بين القاهرة وروما

انتقل فتحي محمد من جامعة القاهرة، إلى جامعة روما عندما أرسلته بلدية حلب في بعثة للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلية في روما التي قال عنه عميدها: «كان يملك مواهب عظيمة، مصحوبة بحب فائق للفن، مع كم كبير من الأخلاق والشيم، وتواضع، ومواهب تجعله شخصاً فريداً وعظيماً في صفاته الروحية الفذة».

تعود أعمال فتحي محمد لأواخر الثلاثينيات ومنها تمثال نصفي لإبراهيم هنانو (قائد ثورة الشمال السوري ضد الاحتلال الفرنسي). وكان أول فنان سوري يكلف بعمل لوحات جدارية نحتية في معرض دمشق الدولي عام 1954، فصمم ونفذ أربع لوحات جدارية من النحت البارز في الجناح السوري تمثل الفعاليات الاقتصادية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة، وباتت هذه اللوحة من أساسيات الجناح السوري. وفي عام 1958 استدعي إلى دمشق ثانية لعمل تمثال الشهيد (عدنان المالكي) الذي أبدع في نحته، ثم بدأ صراعه مع المرض حتى توفي في العام ذاته. قبل نحو عامين ونصف العام نشرت صفحة (تكوّن الفن التشكيلي الحديث في سورية) على الفيسبوك صور مقالات في صحيفة الوحدة (الثورة حالياً) تعود لعام 1959 عن تمثال الشهيد عدنان المالكي في دمشق، ورد في بعضها أن من أنجزه هو المرحوم أكرم الشوا، وهو ما نفاه بحسم بعض أعضاء مجموعة الصفحة، مؤكدين الرواية المتداولة بأن من قام بصنع التمثال هو ونشروا صور مقتطفات صحفية تشير إلى أن الشوا هو من صنع التمثال.

المالكي وصناعة تمثاله

سمعت باسم المرحوم أكرم الشوا لأول عام 1978 من الأستاذ نذير نبعة في معرض حديثه عن تمثال المالكي، حيث ذكر أنه قام بصب التمثال بسبب مرض فتحي محمد. وبعد سنوات طويلة، وتحديداً عام 2017، سمعت الحديث ذاته تقريباً من الدكتور عفيف البهنسي (كان يشغل موقع مدير الفنون التشكيلية أثناء إنجاز التمثال) وذلك أثناء قيامي بالتسجيل الصوتي لمذكراته التي صدرت عن مؤسسة (وثيقة وطن) في العام التالي، وجاء في الصفحة 163 منها:

«بعد استشهاد العقيد عدنان المالكي كان على الدولة تكريمه، واقترحت مديرية الفنون إقامة تمثال له. وكلفتُ النحات القدير فتحي محمد بهذا العمل، وكان في آخر شارع أبو رمانة عند قصر الضيافة مقبرة فرنسية ومحطة بنزين مهجورة تصلح مكاناً لمشغل نحت مؤقت، وقام فتحي محمد بصنعه في هذا المكان، وتمّ صبّ التمثال بالبرونز من قبل أكرم الشوا ولا أذكر من قام بتكليفه بهذا الأمر… أما الضريح فقد صممه وهبة الحريري، وهو فنان حلبي لا يجارى بما يسمى (اليد الحرة)..».

إنجاز ما قبل الرحيل

وذكر الدكتور سلمان قطاية في كتابه (حياة الفنان فتحي محمد) الصادر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1962 أن فتحي محمد قد أنجز قالب التمثال قبل مرضه وعودته إلى حلب. وفي كتابه (تاريخ النحت المعاصر في سورية) الصادر عام 1973 أشار الدكتور عبد العزيز علون إلى أن «فتحي محمد أنتج في دمشق فيما بين خريف عام 1955 ونهاية شتاء 1958 مشروعي نصبين للشهيد المالكي، وثلاثة تماثيل صغيرة الحجم وبالحجم الكامل لذات الشخصية، وتمثالاً نصفياً بالحجم الطبيعي للمالكي وتمثالاً بارتفاع 380 سم للمالكي أيضاً». (ص9 و10). وكرر هذه الرواية المشاركون في ندوة أقيمت في حلب بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس مركز فتحي محمد للفنون التشكيلية، وجاء في تقرير عنها نشر في صحيفة (الثورة) بتاريخ 21حزيران (يونيو) 2012: «ثم استدعي لعمل تمثال الشهيد عدنان المالكي الذي أبدع في نحته أيضا، ثم بدأ صراعه مع المرض حتى توفي عام 1958».

هل اقتصر دور المرحوم أكرم الشوا على صب البرونز كما تقول كثيرٌ من الروايات المنشورة لمعاصرين؟ أم إنه صمم التمثال ونحته وصبه بالكامل كما تقول كتابات غيرها، وكما يؤكد أقرباؤه؟ أم إنه أعاد صنعه وفق النموذج الذي صنعه فتحي محمد كما تشير بعض الوثائق الصحفية؟

الجواب متروك لما قد يكشف عنه الزمن.

صراع مع المرض ويبقى الإبداع

إثر عودته إلى حلب دخل فتحي محمد إلى مستشفى القديس لويس في 8 آذار 1958 وهو يعاني آلاماً في أمعائه، وتُوفِّي في 16 نيسان من العام ذاته إثر عملية أجريت له لاستئصال ورم خبيث فيها. تاركاً وراءه آخر تمثال له (سعد الله الجابري)، وإضافة إبداعية ومعنوية عالية لفن النحت في سورية. أطلق اسمه على مركز الفنون التشكيلية في حلب، ومركز للفنون التشكيلية باسمه، ضمّ عدداً من أبرز منحوتاته وأعماله الزيتية إضافة إلى مجموعة من الميداليات والمحفورات التي أنجزها في حياته (ضُمَّ بعضها إلى جناح الفن الحديث في المتحف الوطني في حلب). ويوجد اليوم على فيسبوك صفحة باسم (جمعية أصدقاء فتحي محمد للفنون التشكيلية) يتم فيها التعريف بأعمال الفنانين التشكيليين، والسوريين خاصة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن