عش المجانين!
عصام داري :
تحتاج أحياناً إلى صبر أيوب كي تستطيع أن تعيش وسط جو غريب عليك كلياً، لكنك تنتمي إليه ولا تستطيع التخلي عنه.
أن تسبح عكس التيار يعاكسك الجميع، وتصبح الجاني مع أنك تعرف، ويعرف العقلاء معك، أنك المجني عليه، وعليك إما أن ترفع الراية البيضاء وتسلم بواقع الأمر، وإما أن تستمر في السباحة عكس التيار وتعادي الجميع، أو الأغلبية على أقل تقدير.
تدرك أنك في عش المجانين، وتتذكر الحكمة الشعبية القائلة: «إن جنّ ربعك لا ينفعك عقلك»، وتذكرت مسرحية «نهر الجنون» للكبير توفيق الحكيم التي تحكي عن حلم رآه الملك يقول إن من يشرب من ماء النهر يُصب بالجنون، فيصبح الملك سخرية لشعبه كله الذي يشرب ماء النهر ويتهمه الملك بالجنون، وفي النهاية يعلن الملك في الجملة الأخيرة من المسرحية:«أعطوني كأساً من ماء النهر».
فأن تكون ملكاً ومجنوناً على قوم من المجانين، خير من أن تكون شخصاً عادياً ومجنوناً بلا تاج ولا صولجان وسط المجانين.
قد نكون مضطرين للعيش في عش المجانين، وعلينا أن نشرب من ماء النهر، لكن هذا لا يلغي عقلنا ويمنعنا من التفكير السليم في وقت نجد أنفسنا أحوج ما نكون إلى العقل السليم، لأن هناك من يريد أن يزين لنا الجنون ويشوه العقل والمنطق في عالم اللامنطق واللامعقول.
عندما نفتقد الأخلاق الحميدة، والمثل النبيلة ونستحلي الفساد ونروج له، نصبح أمة فاشلة آيلة للسقوط، ويصبح الإصلاح نوعاً من النقش في الماء، أو الرسم على رمال الصحراء.
في الأزمات تتعاضد الأمة لتتجاوز محنتها واختبارها، إلا عندنا، فالأزمة كشفت خفايا بعض النفوس المريضة التي كانت تنتظر اللحظة المناسبة لتكشف عورتها وتظهر على حقيقتها البشعة.
فأن يستغل بعض من أصحاب الضمائر العفنة الوضع العام وحاجة الشعب إلى الأساسيات كي يعيش حياة كريمة ويواصل صموده في وجه أشرس هجمة يمكن أن يتعرض لها شعب في العالم، عندما يستغل هذا البعض الوضع ليحتكر ويرفع الأسعار بشكل جنوني وأن يتاجر بلقمة شعبه ودمائه، فهذا قمة الخسة والنذالة وقلة الضمير والوجدان، وهو جريمة موصوفة قد تفوق جرائم العصابات الإرهابية ذاتها.
وأن تصل الأمور ببعض الموتورين إلى بيع المساعدات الذاهبة للمحاصرين في بعض المناطق، أو أن يستغل البعض وجوده هنا أو هناك ليفرض الإتاوات على الناس الفقراء، فقط لأنه يحمل بندقية، أو أن يسرق بعض الخارجين على القيم والأخلاق والإنسانية جثامين الشهداء بدلا من احترامهم، وأن.. وأن.. فقل على الدنيا السلام.
يحدث هذا في بلدي الذي يتلقى الطعنات من الداخل والخارج، يحدث أن يتفاقم الفساد بدلاً من أن يتراجع لمصلحة الوطن لنيل الفوز على من يتطاول على سورية، وعندي من يخالف شارة المرور، أو أن يسير عكس السير ويفاخر بذلك، عندي كل هذه التصرفات ترتقي لمستوى الجرائم بحق وطن يعاني وينزف.
ولأنني أعيش في عش المجانين دعوني أصرخ بأعلى صوتي: «إليّ بكأس من ماء النهر»!.