إذا ما كان للمتابع أن يذهب باتجاه وضع «انفوغراف» راسم لمراحل تطور الأزمة السورية التي ستطوي منتصف هذا الشهر، أو في الثامن عشر منه وفقا لمتابعين آخرين، عامها الحادي عشر، فأول ما يمكن لحظه في ذلك الرسم هو سرعة مغادرتها لبعدها الداخلي، بل الإقليمي، بعد مرور سبعة أشهر على اندلاعها، حيث سيشير الفيتو الروسي الصيني يوم 2 تشرين أول 2011 ضد مشروع قرار غربي كان أشبه ما يكون بالقرار 1973 الذي صدر شهر آذار من هذا العام الأخير وقاد نحو استباحة ليبيا، إلى أن الجغرافيا السورية ذات خصوصية تنفرد بها عن نظيراتها اللواتي سبقنها باندلاع النار، والجغرافيا إياها تكاد تكون مفتاحية لأي تحولات يمكن أن تشهدها المنطقة، ولربما العالم، خصوصاً أن تلك المرحلة كانت تسجل تململاً روسياً، ونهوضاً صينياً، وكلا الفعلين كان أشبه بالنصال المتحفزة، والموجهة، إلى نظام عالمي أوحد انفردت الولايات المتحدة بالهيمنة عليه منذ حرب «تحرير الكويت» عام 1991، مع الإشارة إلى أن ذلك النظام كان قد تلقى صدمات وازنة في أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003 على التوالي.
في العام 2014 الذي شهد صيفه صعوداً لـ«تنظيم الدولة الإسلامية» في سورية والعراق، والذي كان برضى أميركي تام، وهو ناجم عن تصور يقول إن قيام «دولة إسلامية» تمتد على أجزاء من سورية والعراق سيكون خادماً للمصالح الأميركية في المنطقة، حتى إذا كان الحدث المصري في 3 تموز 2013 الذي سجل سقوطاً مدوياً لحكم «الإخوان المسلمين» في القاهرة، بات الهم الأميركي منصباً على محاربة تنظيم «داعش» الذي مضت واشنطن إليه بعد استصدار القرار 2170 للعام 2014، والحدث من حيث النتيجة كان قد قاد إلى ركوب حزب الـPYD لموجة ذلك القرار بعد أن تبصر فيه «رافعة» لمشروعه العابر للحدود السورية والعراقية على حد سواء، لكنه قاد أيضاً إلى تلاقيات روسية أميركية مهد لها اتفاق وزيري الخارجية حينها الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف في موسكو 7 أيار 2013، حتى إذا جاء خريف العام 2015 الذي شهد انعقاد الدورة الـ70 من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة كان التلاقي بين الرئيسين الأميركي والروسي ممهداً لتدخل عسكري روسي في سورية بدأ في اليوم الأخير من شهر أيلول للعام الأخير.
قادت عملية «عاصفة السوخوي»، التي قال عنها لافروف إنها دفاعية عن موسكو، إلى تغييرات جذرية في خرائط السيطرة العسكرية، وبعد عام ونيف على بدئها كانت حلب تعود إلى حضن السيادة الوطنية، لتلحق بها صيف العام 2018 مناطق واسعة في الجنوب السوري بما فيها غوطة دمشق، ثم تاليا مناطق واسعة أيضاً في ريف حماة وإدلب، ما أدى إلى استعادة الكيان السوري لجزء كبير من توازنه الذي افتقده لوقت ليس بالقصير بفعل تكالب دول دولية وإقليمية راحت تعمل على تعميق «قلق التكوين» الذي عانى الكيان السوري منه، منذ نشوئه العام 1920، بفعل اقتطاع أجزاء واسعة في لبنان 1920 وشرق الأردن 1921 ثم في اللواء السليب 1939 وصولا إلى قيام الكيان الإسرائيلي في فلسطين التاريخية 1948 التي كانت تمثل على الدوام خاصرة جنوب بلاد الشام الجنوبية، كان اللعب على ذلك «القلق»، الذي يمكن تلمسه في السياسات السورية، ورقة يراها «اللاعبون» رابحة للمضي قدما في حدوث تحولات إقليمية من النوع الخادم لمصالحهم، خصوصاً أن الولايات المتحدة كانت قد راهنت، وفشلت، على إمكانية استخدام الجغرافيا العراقية كنقطة انطلاق لعموم التغيير في المنطقة التي تعاني اضطرابا ينوس بين عوامل التفجير الكامنة في دواخلها وبين مشاريع الخارج الذي ما انفك يستثمر في هذي الأخيرة لتمرير تلك المشاريع.
ساعد السياق العام السابق في نشوء مسارات راحت تختط لنفسها طرقاً، ومفارق، كل منها يعبر عن مجموعة من الأطراف الفاعلة على الأرض السورية، لنشهد انطلاق «مسار أستانا» العام 2017، ثم «سوتشي» العام 2018 الذي قاد إلى تأسيس «اللجنة الدستورية» المنوط بها إقرار دستور جديد للبلاد، وبمعنى أدق رسم صورة سورية المستقبل لوقت طويل من الصعب الآن تحديد أجله، والمهم في ذلك كله أن موسكو كانت كما «قاطرة الجر» التي تشد باتجاه سير العربات قدماً إلى الأمام، لكن المؤكد هو أن تلك «القاطرة» كانت على الدوام بحاجة في كل المفترقات التي تمر بها إلى «الختم» الأميركي الذي كان ضرورياً لدوام استمرار عملها على النحو الذي تسير عليه، وما الاختناقات التي كان يشهدها المسير في بعض الأحيان إلا تعبير عن وجود حالات استثنائية لم يرد ذكرها في «النصوص» التي جرى التوافق عليها بين الروس والأميركيين.
يوم 24 شباط المنصرم ستكون الأزمة السورية على موعد مع منعرج لربما كان على الدرجة نفسها من الأهمية قياساً بسابقيه، هذا إن لم يكن الأخير هو الأهم انطلاقا مما يمكن أن تحمله الحرب في أوكرانيا من مفاجآت، فالمؤكد هو أن هذي الأخيرة قد أدخلتنا في سرداب يصعب التنبؤ بطوله ولا بالزمن اللازم لقطعه، والمؤكد أيضاً أن الافتراقات الحاصلة ما بين الغرب وروسيا حتى الآن تحتاج إلى سنوات، أن لم يكن إلى عقود، لكي تنتفي مفاعيلها، وهذا كله سيكون ثقيل الوطأة على مسار أزمتنا التي لا يمكن حلها عبر قوة شد واحدة أياً تكن قدراتها، ومن الصعب في سورية التوصل إلى حلول مستدامة دون موازنة قوة الشد الروسي بنظيرتها الأميركية.
نحن لا نقول هنا إن الأزمة السورية دخلت مرحلة «اللا حل»، لكن ما نريد قوله إن هذي الأخيرة، وحلولها، باتت مرتبطة إلى حد كبير بالمآلات، والنتائج، التي ستفضي إليها الحرب في أوكرانيا، والتي ستكون بالتأكيد أهم من المخرجات التي انتهت إليها الحرب العالمية الثانية، التي رسمت حدود، وهوامش، مناطق النفوذ في العالم على امتداد ما يقرب من العقود الخمسة.