من دفتر الوطن

نعمة النسيان

| عصام داري

نسينا كيف نكتب عن جمال الطبيعة وعن الحب والرومانسية، عن أيام الولدنة وفورة المراهقة، وعنفوان الشباب.

نسينا الزمن الجميل الذي كنا نتغنى به وبأغانيه ومطرباته ومطربيه، زمن يقربنا من الحلم ويسحرنا بكل جزئياته وتفصيلاته، مهما كانت صغيرة، فكل زاوية فيه لها ألف حكاية.

اليوم نحنُّ إلى تلك الأيام ونشعر أننا كنا في حلم، ونسأل أنفسنا: هل فعلاً عشنا في ذلك الزمن أم إنه نوع من الخيال والتهيؤات والأمنيات مستحيلة التحقيق؟

نسينا الأبجدية التي فتحت لنا كنوزها طوال أعمارنا التي شارفت على ثلاثة أرباع القرن، تاهت الحروف وتاه الكلام، ضاعت مفردات تحكي عن الجمال والحب والسهر في ليال مقمرة، ونسينا الزجل، والزعل الذي تتصنعه المحبوبة كي نعمد إلى المصالحة وفتح بوابات الغزل على مصراعيها كي ترضى وتمنحنا ابتسامة تشبه السحر.

أخذتنا الدنيا إلى مشاوير ليست مشاويرنا، ودهاليز وزواريب معتمة يسكنها الرعب والخوف والموت المتنقل، هذه الأيام نتجاوز سنوات الجمر والنار والدمار المتنقل على كامل تراب الوطن.

أنستنا السنوات العشر نعمة الحياة واكتفينا بنعمة النسيان، ليس نسيان الزمن الجميل، بل نسيان سنوات الجمر والقهر والكفر التي احتلتنا بالكامل وحولتنا إلى أشباه البشر بعد أن سرقت منا الأمل والأمن والطمأنينة، وها هي تسرق منا حتى رغيف الخبز!.

تحولت لغتنا من لغة العشاق والمحبين إلى لغة مطالب يومية وشكوى لها أول وليس لها آخر، وتغيرت مفرداتنا من وصف حسن وجمال الطبيعة وقصص العشق والهوى إلى الذكاء الصناعي وبطاقته الذكية ورسائل السكر والرز والمازوت بعد أن كانت رسائل الحب والهيام.

صرنا نبحث عن المدعوم و«المدعوس» في قاموس حديث لا يفهم المشاعر الإنسانية وحالة الناس البائسة، فينقسم أبناء آدم بين من يستحق الرحمة والشفقة وبين من يستحق نار جهنم وبئس المصير، ولا يهم بعد ذلك ما يحل بالمحرومين من نعمة الخيرات، وهي على كل حال مجرد نتف، وكيف سيتدبرون أمور دنياهم قبل آخرتهم!.

علينا، من هذا المنظور، أن نتحلى بنعمة النسيان بعد فقدان نعمة الإنسان الذي يسجل كل كبيرة وصغيرة عن الناس ويحصي علينا أنفاسنا وعدد الأرغفة التي نحتاجها في الشهر لضمان استمرار الشهيق والزفير!

حياتنا مجرد رحلة في الزمن تتخللها محطات حلوة ومحطات مرة، نتمتع بذاكرة قوية تعيدنا إلى أيام خلت عنوانها الرئيس: الحب والفرح والسعادة، نشعر أن تلك الذكريات هي كل حياتنا، وفي لحظة مفجعة نعود ونتذكر أننا في زمن آخر مختلف تماماً.

هل وصلنا إلى الزمن الغلط؟ هل علقنا في هذه البوتقة الضيقة التي تسحق الروح قبل الجسد؟ هل صارت كل حياتنا رغيف خبز وعبوة زيت وكيلو رز وثانية دفء؟!

تقزمت حياتنا وصرنا نمني النفس بأن تغزونا نعمة النسيان وأن نفقد الذاكرة التي تهلك أعصابنا، وعلينا إما أن نقتنع بهذا الوضع الصعب المتعب، أو نطلب من اللـه تعالى منحنا الزهايمر كي ننسى الذي كان والذي صار والذي سيصير، وتعالوا نغنَّ معاً مع ملحم بركات: تعا ننسى تعا ننسى الأيام اللي راحوا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن